خمسون سنة على الحرب الأهلية اللبنانية... سردية الحائر

من أرشيف الحرب الأهلية اللبنانية،
بيروت، 19 أيلول 1975
(كلود صالحاني/Getty)

بعد خمسين سنة من اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية، أكتب مجدداً، ليس احتفالاً بذكرى، ولا شغفاً بنبش الماضي، بل لأنّ هذا التاريخ ما زال يزحف في تفاصيل أيامنا، يثقل على ظهورنا، ظلّاً ثقيلاً أدمن رفقتنا واستساغ قصاصنا، وما زالت محاولات الفهم بعيدة عن الوصول إلى محطة نهائية.

من طبيعة الزمن أنّ الذكرى كلما ابتعدت ابتعدنا معها، حتى نقترب ونكاد نكون من شريحة عمرية واحدة وإن كان هناك تمايز في سنواتنا الأولى. هكذا نتقارب معها حتى نبدو نحن الذين ولدنا بعد بداية الحرب الأهلية اللبنانية، من أبنائها، طالما أنّنا ولدنا في إحدى سنواتها الخمس عشرة، لا فارق بينها. فأبناء اليوم لا يفرّقون كثيراً بين من كان شاباً في مطلع الحرب ومن ولد في سنة 13 نيسان المشؤومة أو بعدها بسنوات. كلّنا واحد في عيونهم: أبناء الحرب، وإن كنّا نعلم أنّ سنة واحدة تشكل فارقاً، في ما عشناه وتعايشنا معه واختبرناه وسمعنا به.

ربما يكون معاداً ما أكتب، لكنّه الموقف نفسه لم يتغير في الذكرى الثلاثين والذكرى الأربعين وفي هذه الذكرى الخميسن.

كان لي نصيب كبير من لعنات الحرب في زمن نكباتها، في الثمانينيات، وفي صدمات ما بعدها، وها أنا اليوم أراقب بلداً تتوالى عليه الحروب سنة بعد سنة، بمسمّيات مختلفة، ولا ينفض الغبار والدم عن وجهه... بل لعلّه يرضى ببقاء كلّ شيء على ما هو عليه... يرضى المتاجرون به ببقاء اقتصادهم الحربي قائماً في كلّ حين طالما يحقق لهم الربح.

اقرأ أيضاً: 

صواريخ لا تعرف القراءة


لا أكتب لأحكم، ولا لأندد، ولا لأنبش خراباً أعرف جيداً أنّه لم يُرمَّم. بل لأفهم. وإن كنت قد حاولت الفهم عشرات المرات، فما زلت أقف في نهاية كلّ محاولة أمام باب موصد عليه لافتة: "ممنوع الفهم، مسموح التكرار".

أحاول أن أتصوّر نفسي هناك، في قلب تلك البدايات المتشابكة، لا من موقع المؤرخ، ولا من موقع الضحية، بل من موقع السائل: ماذا كنت سأفعل لو كنت في عشرينياتي أو ثلاثينياتي أو حتى أربعينياتي، لكن سنة 1975؟ هل أهتف مع الحشود، أم أختبئ في زاوية بيت أراقب فيها الشوارع تتغيّر، والوجوه تتبدّل، والأعلام تتكاثر كأنّنا أصبحنا فجأة في أكثر من بلد؟

ربما أقاتل. لا عن قناعة راسخة، بل لأنّ المحيط كان أقوى منّي، ولأنّ سلاحاً في يدي قد يمنحني هوية في لحظة ضياع جماعي، وقد يمنحني حماية وسطوة. ربما أرفض، وأقنع نفسي بأنّ الحياد موقف، لا جبن. لكنّي، في الحالتين، أسقط في اختبار الحرب: إما بأن أرتكب، أو بأن أسكت على ارتكاب.

كنت سأحاول فهم كلّ خطاب يعلو فوق صوت الرصاص، وأظنه يدافع عني، قبل أن أكتشف أنّه يستخدمني. كنت سأعيش وهْم النصر في كلّ معركة "صغيرة"، وأبلع الهزيمة الكبرى في صمت. وربما أنجرف مع فريق، وأؤمن بأنّ خلاص الوطن لا يكون إلا على صورة زعيمه، ولونه، وتاريخه، ونبوءته. وربما أتعب، وأهاجر، تاركاً خلفي بلداً يقاتل ليبقى متصدّعاً.

اقرأ أيضاً: 

يوميات لبنانيين محاصرين في المربع الأحمر


لكنّي أيضاً ربما أفكّر: ماذا لو لم أشارك؟ لا في السلاح، ولا في الهتاف، ولا في الأحلام المستحيلة. ماذا لو اكتفيت بالمراقبة؟ هل أفهم أكثر؟ هل أبني سرديتي الخاصة؟ أم أتحوّل إلى شاهدٍ بلا ذاكرة، وصاحب موقف بلا صوت؟

بعد خمسين سنة، لم تعد الحرب مجرد تاريخ نُسجت حوله الروايات، بل أصبحت هي الرواية التي تُختزل بها البلاد. كل شيء يُقاس عليها: الطائفية، والفساد، والتبعية، والخوف، حتى الأمل.

أحاول أن أكتب عن الحرب الأهلية اللبنانية من خارجها، فأجدني محاطاً بها. كأنّها مستمرّة في حواراتنا، وفي قوانيننا، وفي ذاكرة مدننا التي لم تُشفَ بعد. كأنّها لم تنتهِ، بل بدّلت أسماءها، وشعاراتها، وأشكال موتها.

لا أريد منها أن تعود، وهي لم تغادر ولا أن تُنسى وهي مستمرة في ذاكرة أجيال لم تعشها. فقط، أريد أن أفهمها. أن أفهم كيف حوّلنا وطننا إلى ساحة قتال، وخريطته إلى متاريس، ومواطنيه إلى ملفات تفاوض وتداول وسمسرة وصفقات.

اقرأ أيضاً: 

ربع ساعة في ضاحية بيروت الجنوبية


وأنا أكتب عن الحرب الأهلية اللبنانية، لا أفكّر بحدود يمكن اجتيازها، لتصل إلى دول حقوق وحريات وقوانين وأمن وأمان ومستقبل زاهر. أفكّر فقط بكيس رمل، خلفه مقاتل لا يعرف لماذا يقاتل. لعلّني سأكون ذاك المقاتل إن كنت في الثالث عشر من نيسان 1975 هناك. وربما لا. لكنّي الآن، بعد كلّ هذه السنوات، ما زلت أبحث عن جواب لسؤال بسيط: هل كانت تلك الحرب ضرورية ولا مفرّ منها؟ أخشى أنّ الجواب لا يهمّ. المهمّ أنّنا لم نتعلم منها شيئاً، ولم تزل حيرتنا على ما عهدناها.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

يوميات لبنانيين محاصرين في المربع الأحمر

نصائح لنجاح متكامل في العام الجامعي الأول