آخ يا زياد

 
(مروان طحطح/فرانس برس)
المشهد الأول: صيف 1989. فتى في الثامنة، يعيش لحظة هدنة ما، بعد معارك عنيفة وصلت صواريخها إلى الشارع الذي يسكن فيه، وكادت تقتل أخاه. في تلك الهدنة، ينتظر عبر أثير إذاعة صوت الشعب برنامجه المفضل المخصص للأطفال: تنذره موسيقاه وكلمات مؤدّيه "نعمٌ نعمٌ نعمٌ نعمٌ أنا عدّول في خدمتكم". وفي الانتظار فقرة إخبارية ومن بعدها أغنية لزياد الرحباني مناسبة لكلّ ما يعيشه الفتى وأهله والشارع والمدينة والوطن كلّه: "أنا مش كافر بس البلد كافر". يحفظها الفتى ويرددها لأقرانه في الملعب، فيشعر للحظة أنّه أهمّ منهم، قبل أن يعاود لعب الكرة بعبوة الصودا الفارغة الصدئة معهم، فتدور المطاحشة وتختلط السيقان وتمتلئ بالكدمات والخدوش بالتساوي.

المشهد الثاني: أواخر شتاء 1997. كبر الفتى، وها هو يتهيأ لامتحانات الشهادة المتوسطة. ما زال يحفظ الأغنية، لكنّ مراهقاً آخر في الفصل يعرف عنها وعن صاحبها أكثر منه. يعرف أغاني عدة، ويحفظ بعض العبارات المسرحية، التي لطالما سمع بعضهم يقولها من دون أن يبالي كثيراً بها في حمّى غرقه بأخبار الرياضة وحدها مونديالاً وأولمبياداً وبطولات محلية وعالمية. لكنّ حدثاً عجائبياً وقع له، إذ صادف بسطة لبيع ما يبدو أنّها مسروقات بالية، وبين معروضاتها ثلاثة أشرطة كاسيت زرقاء شفافة، يحمل كلّ منها ورقة لاصقة خُطّ عليها: "نزل السرور 1"، "نزل السرور 2"، "نزل السرور 3". كان يعرف تلك المسرحية، أو على الأقل اسمها واقتباسات زميله منها. أنفق كلّ ما يملك في جيبه وظفر بتلك الغنيمة التي أنسته مشواره، إذ عاد إلى المنزل، وأمضى معظم ليلته مصادراً المسجلة، مستمعاً بنهم إلى كلّ كلمة ولحن. لم يعد الفتى كما كان قبلها. هو شعر بذلك، كما شعر كلّ رفاقه. لكنّ شعوره بأنّه أهمّ منهم هذه المرة صاحبته رغبة في أن يعلّمهم ما تعلّم، ربما نكاية بزميله ذاك، فمضى يعير كلّ واحد منهم الأشرطة الثلاثة يومياً، حتى استمع إلى "نزل السرور" عشرون فتى، وثلاث فتيات. هل شعروا بما شعر به؟ محتمل... لكنّه أضاف إلى شعوره الأول قدرته على التأثير فيهم مبشّراً بزياد.

اقرأ أيضاً: 

دكتور أنا مش حَجّة!


المشهد الثالث: أواخر ربيع 2006. كان رائعاً أن يتمكن الصحافي من الحصول على آخر ثلاث بطاقات في حفل لمسرحية "شي فاشل" في مسرح قصر أونيسكو. هي إعادة إنتاج ناجحة للمسرحية التي يحفظها حرفاً حرفاً، وليست لصاحبها الأصلي علاقة مباشرة بها هذه المرة. ذهب مع شقيقيه ولعبت الصدفة الغريبة والسعيدة لعبتها في أن تكون مقاعدهم آخر ثلاثة في قاعة المسرح الكبير، عند الزاوية العليا يسار الخشبة. جلسوا في العتم، وكانت لحظة دهشة نادرة مع انتهاء العرض أنّ زياد شخصياً يجلس في أقصى الزاوية إلى جانبهم، وأنّهم أول من حيّاهم في تلك الليلة.

المشهد الرابع: صيف 2018. كانت الحياة أحلى، في الخاص والعام رغم كلّ المآسي التي تحيط بالوطن الصغير، وكثير من المنغصات. نعم كانت الحياة أحلى، وأحلى ما فيها حفل افتتاح موسيقي لمهرجانات بيت الدين، جهد مع أصدقائه للحصول على بطاقاته وتمكنوا منها. رحلة تختلط فيها مشاعرهم وأحلامهم وأذواقهم الموسيقية والفنية والاجتماعية حتى. كلّها يجمعها مدرج كبير يجلسون في مرتفعاته البعيدة ويصرخون الأغنيات صراخاً يضمهم إلى جوقة عظمى من مرددي ألحان زياد وهو جالس إلى البيانو، ومن حوله فرقته، ويبدو المسرح بهم جميعاً مثل شهاب يخترق أمواج الظلمة ويلوّن السماء. كانت سحراً لا يُنسى تلك الليلة بكلّ من فيها وما فيها.

المشهد الخامس: صيف 2021. الأزمة الاقتصادية في أقسى مستوياتها. الوقوف اليومي في طوابير لا تنتهي بات واقعاً لا مفرّ منه، كما انقطاع الكهرباء وتسلق السلالم. حرّ يترافق مع كوفيد-19 وتبعات انفجار المرفأ... بيروت لم تعد كما كانت. على الشاطئ الصخري ينتقل صديقه البحري من سرد معاناة ثقيلة إلى واحدة أثقل، فيبدي استغرابه لكلّ هذه القصص ويصرخ مستنكراً: "شو هيدا ولو". يبتسم الصديق ويخبره أنّ ما صرخ به هو مطلع أغنية لم تسجل بعد لزياد، وهو الذي يدّعي دائماً أنّه عارف بكثير من أخبار جاره. ورغم عدم تيقّنه من ذلك تماماً، يُسرّ باحتمال أن تتناغم صرخته العفوية مع أغنية سيستمع إليها بشغف يوماً ما.

المشهد السادس: 26 يوليو/تموز 2025: انتهى كلّ شيء. يتألم وهو يعدّ الخبر لغلاف الصفحة الأولى. مات زياد الرحباني. مات الصديق والأخ... آخ يا زياد.

عصام سحمراني

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

يوميات لبنانيين محاصرين في المربع الأحمر

نصائح لنجاح متكامل في العام الجامعي الأول