لبنان حقيقة... طائفية
عند كلّ مفترق، وأمام كلّ قضية، وفي قلب الأزمات جميعاً، ومن بينها الانهيار الحالي في لبنان، تبرز الطائفية كمحرك أساسي، رغم كلّ الحملات الوطنية ذات الطابع الفولكلوري والتي لا ترتبط بالواقع بالضرورة بل بعقدة "عصر ذهبي" يعيش في أحد الكتب العتيقة، أو بحنين من مهاجر أمضى عمره كلّه خارج لبنان وما زال يتخيله على غير ما هو عليه.
لعلّ الطائفية الأسوأ هي التي ترضى بنوع من الوطنية تكون فيه غلبة لطائفة على بقية الطوائف، أو بتحالف طائفتين على حساب بقيتها، وهو ما يمكّن زعماء الطوائف من الحكم وإبراز هذه البنية المهترئة في الخارج على أنّها دولة، فقط لأنّ أصوات بقية الطوائف غير مسموعة، مع ملاحظة تبادل الأدوار والمصالح بين الطوائف الكبرى تاريخياً، ولأنّ أصوات أبناء الطائفة الحاكمة مكمومة بالوظائف من جهة وبالتخويف والتخوين والتبعية للزعماء من جهة أخرى، وكلّ ذلك يحوّل أبناء الطائفة إلى رعية لا مواطنين، تابعين لراعٍ- زعيم طائفي.
وربّما المصيبة أنّ معظم الناس عاجزون عن الخروج من طائفيتهم المفروضة عليهم، بل إنّ أكثرهم لا يريدون الخروج أساساً، بل يدافعون عن بقاء الوضع كما هو عليه، وهو ما يؤسس لازدواجية غريبة لدى كلّ فرد، تجعل له خطاباً داخلياً متمايزاً تماماً عن الخطاب الخارجي، إلّا في المفترقات عندما تشتعل الأزمة معركة ما، تكون في العادة مدبرة بين زعماء الطوائف لشدّ العصب إليهم، عندها يطغى الخطاب الداخلي على الخارجي ويخرج خطاب الطوائف الحقيقي وفوقيتها وتمييزها وتمنينها وتهديدها وتخوينها وكلّ ما يجعل أبناءها يقدمون طائفتهم على وطنهم في التعريف عن هويتهم: "أنا ابن الطائفة الفلانية" وليس "أنا لبناني".
هي مسألة تربوية، فالتربية تأتي قبل التعليم، والطائفية ابنة البيت قبل أن تكون ابنة المدرسة، وكثيرٌ من التربية يأخذ أبعاداً طائفية، ليمتد ذلك إلى التنشئة الاجتماعية، فمهما كانت الوجبة التربوية المقدمة من المدرسة إلى جانب الوجبة التعليمية، يتلقى الفرد تنشئة موازية تحافظ في الغالب على "النسيج الطائفي" ولا يختلط فيها مع "دخلاء" و"غرباء"، في الحيّ والنادي والمركز الديني، بل حتى في القناة التلفزيونية الغالبة في منزل العائلة، ونشرة أخبارها المسائية الموجهة.
في مرحلة لاحقة، ما بعد مدرسية، قد يتعصب الفرد لطائفته أو يغلّب طائفيته على وطنيته، تبعاً للخطاب الداخلي الغالب لديه، وفي المقابل، فإنّ بلداً مثل لبنان يجبر من يريدون أن يتقدموا في حياتهم من الخريجين الثانويين والجامعيين على الدخول في لعبة المحاصصة الطائفية للتنافس على الوظائف العامة، رغم أنّ هؤلاء بالذات - لا سيما الجامعيين - أكثر قدرة على التفكير النقدي على الأقل، من أقرانهم لا سيما المتسربين مدرسياً في مراحل سابقة، وإلّا ما نفع كلّ ما تعلموه إن لم يتعلموا الانفتاح على جميع الآراء والنظريات وعدم التعصب لمقولة واحدة باعتباره الحقيقة الكونية المطلقة؟ لكنّهم أيضاً - حتى من تعلموا التفكير النقدي- يدركون أنّ الطائفة قبل أيّ كفاءة في هذا البلد. ومفتاح الوظيفة العامة، وربما الخاصة في كثير من الأحيان، ومعها التلزيمات والمناقصات والمزايدات، زعيمها الطائفي وحصته التي يراد لها بالتأكيد أن تتحول إلى تأييدات له ممن عينهم ووكلهم ومن عائلاتهم، وهو ما يظهر في الشراكات بالأرباح، وفي الانتخابات، والتظاهرات، وصولاً إلى المعارك ذات الصبغة الطائفية، فالمثل ذو الوجه السوسيولوجي واضح حين قال: "اللي بياكل من خبز السلطان بيضرب بسيفه". الزعيم قطعاً لا مانع لديه من مشاهدة أتباعه - رعيته، يتزاحمون على المصارف لنيل جزء يسير من حقوقهم، بلعبة جديدة تافهة أطلق عليها مصرف لبنان تسمية التعميم 161، كما تزاحموا في أوقات سابقة، في خطوة كالعادة تتعامل مع نتائج الانهيار بمستوى ضعيف حتى، ولا تتعامل مع السبب في رفع أسعار الدولار وانهيار الليرة وسيطرة السوق السوداء والمضاربات ومنصات الصرف، لأنّ التعامل مع السبب ببساطة يخدش مصالح البنية التقليدية وأدواتها المهيمنة.
هكذا تحكم البنية التقليدية، في الغالب، ولا تؤسس دولة لم يصل لبنان إليها بعد مئة عام وعام على تأسيسه، وثمانية وسبعين عاماً على استقلاله، وستة وسبعين عاماً على المشاركة في تأسيس الأمم المتحدة والانضمام إليها. تلك البنية هي التي تحرك الجماهير في اتجاهات مختلفة لكنّها في الوقت نفسه متآلفة في جعلهم مدافعين شرسين عن تقليديتها، وإلّا كيف تبقى العائلات الحاكمة هي نفسها عقوداً؟ وكيف يستمر أصحاب المناصب في مناصبهم إلى أن يموتوا؟ وفي المقابل، كيف يُستبعد كثيرون رغم كفاءتهم ولا يبرزون إلّا خارج لبنان؟ وكيف لم نشهد على إنجازات كبيرة في الداخل اللبناني؛ من فتوحات علمية وابتكارات واختراعات وأرقام قياسية، فيما نحتفي دائماً بلبناني حقق إنجازاً، ولم يكن في لبنان منذ ثلاثين عاماً وأكثر؛ بل يمثّل ويحمل جنسية بلد آخر، والأسماء كثيرة طوال تلك العقود، وفيما لا إنجازات لدينا، مما ترعاه تلك البنية التقليدية وتروج له، غير أكبر صحن تبولة وأكبر كوب ليموناضة وأطول سندويش لبنة، وتفاهات من هذا القبيل!؟ هناك أمثلة بالتأكيد لأشخاص عملوا بجهد وتعبوا وحققوا إنجازات عدة لها قيمتها المعتدّ بها في مجالاتهم، لكنّ هؤلاء للمصادفة، أو ربما بطبيعة الحال، هم - في معظمهم - ممن تمكنوا من كسر حاجز البنية التقليدية والخروج إلى عالم أرحب يتجاوز الوطنية حتى، إلى الإنسانية عموماً، وإن من دون ضجيج.
وبذلك، يترسخ واقع أنّ "الأمان الوظيفي/ الاقتصادي" و"الأمان المجتمعي" يتجسدان في البنية التقليدية، ولعلّها أسهل الطرق للفرد لتحقيق ذاته، سواء بإدراكه أم بغيره، فيما الخروج من هذه البنية هو خروج عن قيد الزعيم الطائفي، إلى المواطَنة "الحاف"، وليتحملّ الخارجون اختيارهم، إذ لن يجدوا من يناصرهم في ذلك إلّا كذباً وركوباً لموجة، يوفران مصلحة آنية، أو يرسخان زعامة طائفية، كما شهدنا في تحركات حقوقية عدة في السنوات الأخيرة.
تعليقات
إرسال تعليق