"ميكروفون" محمد طرزي... الأحياء ليسوا موتى

 

هذا ليس نقداً، والنقد ليس مهنتي، بل مجرد عرض سريع من منظار قارئ لا أكثر، لكنّه عرضٌ يغفلُ عامداً عن حبكة العمل وأحداثه وبقية عناصره الروائية، ليقترب أكثر من البناء النظري خلفها. وهو إغفال أقصد من ورائه تشويق القارئ للخوض في عالم يحوي كثيراً من المتعة المجاورة لكثير من الألم.

فأن تنقلب حياتك من حال إلى حال، هو ما يقدمه الروائي محمد طرزي في روايته "ميكروفون كاتم صوت" (الدار العربية للعلوم- ناشرون، بيروت، 2023). لكنّ الوصفات السحرية ليست إلّا في حكايات الأطفال البعيدة جداً عن واقع من ابتكار الكاتب وخياله، ويحرص على تشكيل تفاصيله بحنكة. فما الحلّ إذاً؟

هو مخاض، وطبيعة المخاض الحراك... وأن تتحرك يعني أن تنفضَ عنك كلّ الموت العالق فيك، ذلك الممعن في إسقاطك واستنزافك والسخرية منك حدّ الضجر والكفر، لتخرج صادحاً بعدها مثل صرخة بعد صمت طويل وقمع ورضوخ، مثل ذلك الميكروفون الذي دأب يردد النص نفسه كلّ يوم على امتداد سنوات، وأيقظته الصدمة من روتينه الطويل، فكانت صدمة أكبر لكلّ من سمع صراخه.

تظهر كلّ هذه الحياة العامرة في مدينة تبدو ساكنة ساكتة نائمة على البحر، لكنّ فيها صراعات حتى داخل ذات كلّ واحد من أفرادها- شخصيات روايتها، تنبئ بما سوف يأتي وتمهد لانحياز القارئ مع هذا أو ذاك، والتعاطف اللاحق حتى مع من انحزتَ عنه، أو لوم من انحزتَ إليه. وهكذا ينجح الصراع في أن ينتقل من أحداث الرواية وشخصياتها إلى ذات القارئ حتى.

تلك الحياة بين ذينك الحالين؛ أولهما عميق عمق قبور المدينة، وثانيهما فرصة، مجرد فرصة، لانتشال جثة وإحيائها مجدداً... وبينما الموتى لا يعودون إلى الحياة في واقعنا، فإنّ بعض الأحياء يرتضون لأنفسهم الموت والسكون الطويل، حتى تشعل كلمات الكاتب أنفاسهم، وتصور أمامهم ذلك الطريق، مهما كان صعباً ومهما سقط كثيرون عليه وهم يسعون لعبور حافة نهايته.

مع ذلك، يتركنا محمد طرزي متساءلين عن جدوى كلّ ذلك... لكنّنا إذ نقلب النتيجة السوداوية في أنّ "المرء لا يحتاج لكي يموت إلّا أن يكون حيّاً1" لنستبدلها بأنّ الأحياء ليسوا موتى، ننحاز إلى الكاتب، إذ يبدو أنّ هناك جدوى فعلاً، وإن كانت على قياس فرد، لا أكثر.

1- من رواية جوزيه ساراماغو "كلّ الأسماء" ترجمة صالح علماني.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

يوميات لبنانيين محاصرين في المربع الأحمر

نصائح لنجاح متكامل في العام الجامعي الأول