التغير الثقافي وسط أمواج العولمة
لعلّ تأثير العولمة كبير اليوم على مستوى التغير الثقافي في مجتمعات اليوم، أي التغير في البنية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لتلك المجتمعات، خصوصاً التي لا تصدّر العولمة، بل تتلقاها، فتشارك فيها بإرادتها أو عنوة.
أولاً، فإنّ التغير الثقافي بحسب غي روشيه هو "التحولات التي يمكن ملاحظتها والتحقق منها في الزمن، وهي تحولات غير عابرة أو وقتية. تؤثر التحولات في البنية الاجتماعية لجماعة ما أو في عملها، وتؤثر بالتالي في مجرى تاريخها".
أما العولمة فمن بين عشرات التعريفات، نختار نظرتين إليها، الأولى لمطبقي العولمة ومؤيديها والثانية لمناهضي العولمة. يقول الفريق الأول إنّ العولمة هي بناء عالم واحد أساسه توحيد المعايير الكونية، وتحرير العلاقات الدولية السياسية والاقتصادية، ونشر المعلومات، وعالمية الإنتاج المتبادل والإعلام، ونشر التقدم التكنولوجي بما فيه الخير للبشر. وذلك التوحيد في المعايير يهتم بالعمل المؤسساتي أكان مدرسياً وجامعياً من ناحية التربية والتعليم أو اقتصادياً يظهر في التبادلات التجارية والمصرفية أو سياسياً قوامه نشر الديموقراطية وحقوق الإنسان كما ترعاها الأمم المتحدة. ولا تختص العولمة بمحو ثقافات الشعوب وقيمها وأساليب حياتها بل على العكس من ذلك قد تساهم في تعزيز حضور تلك القيم والعادات والمنتجات الخاصة على المستوى الكوني الأوسع. مثال على ذلك يظهر في بعض المأكولات الوطنية لدول صغيرة مما بات منتشراً في دول بعيدة جداً عن البلد الأصلي. 
في المقابل، تختلف تلك النظرة إلى العولمة لدى الفريق الثاني، إذ يعتبر مناهضو العولمة أنّ المفهوم نفسه منشأه غربي، وطبيعته غربية، والقصد منه تعميم فكر الغرب وثقافته ومنتجاته على العالم وتحويل كلّ بلدان العالم إلى سوق فعلية للمنتجات المختلفة للغرب. فهي ليست نتيجة تفاعلات حضارات غربية وشرقية انصهرت في بوتقة واحدة، بل هي سيطرة قطب واحد على العالم ينشر فكره وثقافته مستخدماً قوته الرأسمالية لخدمة مصالحه. هي من مورثات الحملات الصليبية وما سبقها من غزو روماني وقبله إغريقي للعالم القديم. فروح الاستيلاء على العالم هي أساس العولمة ولبها، لكن بطريقة نموذجية يرضى بها من تخضع دوله للاستعمار ويهلل لها كأساس للتقدم. وكما يبرز في كتاب "القوة الناعمة" لجوزف ناي، فإنّ الوصول الأميركي إلى قلوب الشعوب يتطلب تبديل أنماط تفكيرها وقيمها بما يتناسب مع المصلحة الأميركية. فتغيير تلك القيم عبر المدارس والرسائل الإعلامية والإعلانية والسينما والتلفزيون والإنترنت والموضة والرياضة بما هي شريكة في عملية التربية والتعليم إلى قيم ذات طابع أميركي، ولو مع آثار مستمرة من الثقافة المحلية، يؤدي إلى اعتناق تلك الشعوب ما يُطبَّق عليها بل مطالبتها بالمزيد منه في عملية تمثل التغير الثقافي - القيمي الواقع عليها من دون أن تعي ذلك حتى.
بالعودة إلى التغير الاجتماعي، فإنّه يتمظهر في القيم الاجتماعية والنظام الاجتماعي ومراكز الأفراد وأدوارهم، ويمكن القول إنّ التغير يؤثر في مجرى تاريخ مجتمع ما.
هذا التغير المفروض على المجتمع فرضاً لا يوارب بخصوصه كثير من دعاة العولمة لا سيما دعاة الهيمنة الأميركية على العالم. فهؤلاء يرون حتمية للتغير الثقافي والاجتماعي الناشئ عن العولمة وحتمية لانتصار النموذج الغربي بما يحمله من قيم، إذ يقول فرانسيس فوكوياما في كتابه "نهاية التاريخ والإنسان الأخير" إنّ "الديموقراطية الليبرالية تشكل فعلاً منتهى التطور الأيديولوجي للإنسانية، والشكل النهائي لأيّ حكم إنساني بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، ما يعني نهاية التاريخ وتحقق الانتصار الشامل للنموذج الحضاري الغربي كخيار وحيد لمستقبل الإنسانية". هكذا يحدد فوكوياما المنتصر والخاسر، وما يتحتم على الخاسر اعتناقه وهي الديموقراطية الليبرالية بالذات تسليماً بخسارته في حتمية واضحة للانتصار الذي حققته. لكنّه مع ذلك، يشير إلى أنّ ذلك الانتصار لا يمكن أن يكتمل في ظلّ عاملي مقاومة تجاهه يتمثلان بالدين والقومية. ويربط بين هذين العاملين واستمرار وجود دول غير ديموقراطية (بحسب النموذج الغربي الذي يحدده هو وغيره).
على مستوى التغير الثقافي المفروض على المغلوب من الغالب، يتحدث عبد الغني عماد في كتابه "سوسيولوجيا الثقافة" عن الثقافة باعتبارها "أحد المجالات المصاحبة للصراع بين الأمم والحضارات، فبينما اقتصرت في الماضي على التأثير والتأثر المتبادل عبر التجاور الجغرافي والسفر والتجارة، ومن ثم عبر الحروب التي تفرض في نتيجتها ثقافة الغالب وطرائقه في العيش عبر آلية التقليد والمحاكاة التي أجاد ابن خلدون تفسيرها، فالمغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيّه ونحلته (عقيدته)".
يتطرق عماد في حديثه عن التغير الثقافي إلى ثقافة العولمة خصوصاً في الشق التربوي والقيمي؛ "فثقافة العولمة هي ثقافة ما بعد المكتوب، ظهرت وأخذت توطد حضورها بعد ضمور الثقافة المكتوبة أمام هجمة ثقافة الصورة التي استطاعت أن تحطم الحواجز اللغوية بين المجتمعات الإنسانية نتيجة لتطور الثقافة التي ساعدت على انتشار منظومة الاتصال الحديثة خارج البلدان التي أنتجتها، وتشكلت في ضوئها إمبراطوريات إعلامية مهمتها تصدير ثقافة الصورة بالنظام السمعي والبصري".
يتابع أنّ ما زاد في انتشار هذه الثقافة هو تراجع معدلات القراءة، حيث أصبح التلفزيون والإنترنت منافسين جديين للمؤسسة التربوية التي راحت أيضاً تروج هذه الثقافة، ما جعلها منافساً حقيقياً إن لم يكن بديلاً للأسرة والمدرسة في بعض المجالات. ومما يزيد من فعالية هذه الثقافة المعولمة أنّ التبادل الثقافي الحالي هو تبادل غير متكافئ بين ثقافات متقدمة تمتلك إمكانيات واسعة، وثقافات تقليدية لا تزال أدواتها الموروثة التاريخية هي ذاتها.
وبهذا، تصبح ثقافة العولمة "فعل اغتصاب ثقافي وعدواني رمزي على سائر الثقافات، إنّها رديف الاختراق الذي يجري بالعنف، المسلح بالتقانة، فيهدد سيادة الثقافة في سائر المجتمعات التي تبلغها عملية العولمة" كما يقول عبد الإله بلقزيز في كتابه "العولمة والهوية الثقافية".
كخلاصة، نشير إلى كلمة للكاتب عبد الإله بلقزيز في كتابه "العرب والحداثة"، وهي كلمة تفيدنا في التفريق ما بين الحداثة التي تتولى العولمة نشرها في الأفكار والقيم والقوانين والاختراعات والابتكارات كما هي في بلد المنشأ وكما هي في بلد الاستهلاك خصوصاً الاستهلاك القيمي. يقول بلقزيز: "الفارق عظيم بين الحداثة وبين التقليد الرثّ للغرب (التغربن). فالتغربن يرادف التبعية الفكرية والكسل المعرفي والتسول الثقافي والتعيّش من إبداع الآخرين وتحويل المعرفة من إنتاج إلى ترجمة وترداد مملّ ورتيب لما قاله الآخرون".
عصام سحمراني
08/05/2017 
تعليقات
إرسال تعليق