أن تكون عقلانياً في لبنان

 "كبر عقلك" من أفضل المقولات إشارة إلى الإطار الفكري. المشكلة أنّ من يطرحها على يقين أنّ "تكبير العقل" يعني الإيمان بما يؤمن به لا أكثر...

كتب البروفيسور ستيفن بينكر مقالاً شيقاً نشره الموقع العربي لهيئة الإذاعة البريطانية (BBC) بعنوان "
كيف تصبح أكثر عقلانية في العام الجديد؟". استعرض أستاذ علم النفس بجامعة "هارفارد" الأميركية ومؤلف كتاب "العقلانية: ما هي؟ ولماذا تبدو نادرة؟ وما أسباب أهميتها؟" ثلاثة عناوين عريضة للتوصل إلى العقلانية في حياتنا اليومية.

وبينما تحدث العنوان الأول عن حصر الخيارات الشخصية مستقبلاً، والثاني عن مقاومة الأفكار العشوائية ومعها الإيمان بالمصادفات، فإنّ الثالث تحديداً كأنّه كُتب لكثير كثير من اللبنانيين في نقاشاتهم، سواء أولئك الذين يحظون بإطلالات تلفزيونية، أو غيرهم ممن يتواجهون يومياً عبر مواقع التواصل. هؤلاء، من المستويين، يصلون إلى حدّ التخوين والإلغاء، بعد تمييز واستخفاف وتحريف وإضاعة للبوصلة وتهميش وإقصاء، وكلٌّ منهم بالطبع يحمل شعار "أنا على حق... أنا دائماً على حق... والآخرون على ضلال".

هذا العنوان الثالث يسأل: "هل تهاجم الفكرة أم صاحبها؟". خطير هذا السؤال فعلاً، إذ ليس الهدف من النقاش لدينا عادة غير الانتصار على الآخر، بل إفحامه في تراث متأصل، وهو نهج عربي عام وليس مختصاً باللبنانيين وحدهم، يذكرني بمقارنة أجراها السوسيولوجي فريدريك معتوق بين البوليميك المعتمَد غربياً للنقاش العام والتوصل إلى القوانين من خلال سيرورة ديمقراطية تتيح المشاركة للجميع من دون تكميم أفواه وإخراج من الملّة، وبما يجري في بلادنا عموماً من إقصاء وإلغاء. يصف في كتابه "مرتكزات السيطرة الغربية" ذلك البوليميك بأنّه "استعداد ذهني للانفتاح على الخصم، من دون شجار وخصام، بل بجدال خلّاق بنّاء يهدف الداخل فيه إلى الخروج بنتيجة مختلفة جدلياً عن تلك التي انطلق منها وينتمي إليها حالياً. ولا يسعى إلى دحر أفكار الآخرين وتثبيت فكرته وحده كما هي. الطرفان توحدهما استراتيجياً دينامية واحدة تجعل نشاطهما السياسي متكاملاً".

لا شكّ بأنّ مثل هذا النهج يستند إلى نسبية المعرفة، وهي التي لا يؤمن بها أصحاب مذهب "نحن الحقّ وحدنا" بل يشتد عنادهم في ما يتعدى حدود النقاش إلى حدود الفعل في أحيان كثيرة، وهو فعل ضارّ سواء بأنفسهم وعائلاتهم إن كان رفضاً للقاح كورونا مثلاً من دون أيّ أدلّة، أو بمجتمعاتهم وأوطانهم إذا كانوا من أصحاب السلطة والنفوذ والفاعلين القادرين على التحكم بغيرهم.

ربما لا يعجب كثيرين أنّهم على حق وباطل في الوقت نفسه، بنسب مختلفة، لكنّه الواقع إلى حدّ بعيد. وبعيداً عن معتقدات كلّ شخص الدينية، التي لا مقام هنا للبحث فيها، فإنّ كلّ فكرة مهما كانت هي فكرة قابلة للنقاش؛ لنقاش سجالي يشبه البوليميك وليس الإفحام، إذا ما أزحنا العصبيات والتحيزات جانباً، وفكرنا بعقلانية، وهو صعب جداً على من تمكنت الطائفية من الدخول إلى كلّ تفاصيل حياتهم، وهو ما نشهد عليه في الخطابات السياسية الأخيرة في الأيام الماضية، وردود الفعل حولها رسمياً وشعبياً.

في كلّ الأحوال، وبلغة بول فيرابند، فإنّ ما كتبتُه هنا أو ما كتبه معتوق أو بينكر، يحتمل الصحة كما يحتمل الخطأ، وهو بالذات ما قد يكون عليه قراركم الانتخابي السابق، والمقبل. لكن، تعقّلوا، فربّما كانت قراراتكم الانتخابية هي ما أودى بنا إلى الانهيار الكارثي الحالي... أقول ربّما، كي لا أرفع من شأن من لا شأن فعلياً لهم من أدوات، بمسميات نواب بل حتى وزراء.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

يوميات لبنانيين محاصرين في المربع الأحمر

نصائح لنجاح متكامل في العام الجامعي الأول