قراءة منهجية وتلخيص لكتاب "زمن الصحوة"


معلومات*
الكتاب: زمن الصحوة... الحركات الإسلامية المعاصرة في السعودية
المؤلف: ستيفان لاكروا
الترجمة بإشراف: عبد الحق الزمّوري
دار: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت – لبنان
الطبعة: الأولى 2012

عصام سحمراني
‏24‏/05‏/2017

في المنهجية
يشير ستيفان لاكروا منذ البداية إلى تحدٍّ كبير في مقاربة حركة الصحوة الإسلامية في السعودية، تلك الحركة التي أطلقت انتفاضة احتجاجية في تسعينيات القرن الماضي شكلت حدثاً فريداً في تاريخ المملكة على صعيد معارضة النظام الحاكم بشكل منظم أدى إلى تحولها إلى نقطة مرجعية للحملات التعبوية الإسلامية في البلاد لاحقاً. هذا التحدي هو أنّ لاكروا سعى إلى "كتابة تاريخ لم يُكتَب بعد".
يبحث لاكروا عن مقاربة لقراءة انتفاضة الصحوة مشيراً إلى رفضه مقاربتين درسهما جيداً وتبيّن له أنّهما غير مفيدتين. الأولى هي المقاربة النفسية الاجتماعية والثانية هي المقاربة الثقافية. فالمقاربتان تنظران أولاً إلى التعبئة على أنّها ليست سوى وليدة عوامل محدِّدة خارجية، من دون أخذ بعد العمل الجماعي الاستراتيجي في الحسبان أبداً. كذلك، فإنّ المقاربتين لا تأخذان في الحسبان تعقيدات المجتمع السعودي، بل تتعامل المقاربة الثقافية بالذات مع هذا المجتمع باعتباره متجانساً وكياناً متماسكاً يمكن اختزاله بمذهب وهابي، وتنظر المقاربة النفسية الاجتماعية إلى الفضاء الاجتماعي بوصفه كياناً موحداً يتأثر بقوى دينامية متسقة.
المقاربة البديلة التي يقدمها لاكروا يستقيها من نظرية المجالات للسوسيولوجي الفرنسي بيار بورديو، ويكيّفها وفقاً لحقله البحثي. وبذلك، يقسم المجتمع السعودي إلى ثلاثة مجالات هي: المجال السياسي، والمجال الديني، ثم المجال الثقافي. ويمضي في التحليل على أساس استقلالية كلّ مجال وقدرته على إعادة إنتاج النمط القائم فيه. فتنشأ الأزمة، وهي انتفاضة الصحوة بالذات، من ذلك التداخل، ومحاولة المجال الديني بث نفوذه في المجال السياسي عقب سيطرته على المجال الثقافي مع نهايات الثمانينيات وبداية التسعينيات من القرن العشرين. وهنا يبرز دور السلطة في قدرتها الدائمة على التلاعب بالمجالات وبالعناصر داخل كلّ مجال إذ تعلي شأن فئة على فئة أحياناً تبعاً لمصالحها، وتقدّم مجالاً على مجال تبعاً لذات المصلحة.
في الأدوات، يتضح أنّ لاكروا لم يلجأ إلى بحث كمّي أداته الاستمارة، بل إلى بحث نوعي كان من أدواته الملاحظة وتحليل الوثائق الكتابية والتسجيلية وتحليل مضمون مقابلات عديدة أجراها مع مختلف الأطراف بهدف الإحاطة الكاملة بقضية البحث. يشير لاكروا إلى أنّ عدد المقابلات التي أجراها بين 2003 و2007 بلغ خمسين مقابلة. يضاف إليها عدد كبير من المصادر الثانوية من المؤلفات العربية من كتب وتسجيلات إسلامية ومنشورات وسير ذاتية ومجلات. وهو ما يدلنا كذلك، على أنّ المؤلف ضليع باللغة العربية. كذلك، لا يتوانى الكاتب عن الاعتراف بفضل المنتديات الإلكترونية باعتبارها "مصادر معلومات غنية جداً تتعلق بآخر المستجدات".
الإشكالية تظهر في الفصل الأول إذ يقول لاكروا: "الحداثة لا تدخل على الخط إلاّ بشكل غير مباشر، عبر اكتشاف النفط الذي مكّن الخصوصية الدينية من أدوات تعينها على التواصل العالمي". هذه الإشكالية يمكن تحديدها أكثر عبر القول إنّها "صعوبة التغيير (التحديث) في مجتمع محافظ (السعودية)"

في المضمون
لتحديد المجالات الأساسية وأدوارها يعود لاكروا إلى نقطة تأسيس الدولة السعودية الأولى من خلال ميثاق 1744 بين سيف محمد بن سعود والدعوة الدينية للشيخ محمد بن عبد الوهاب. وعد الأول بتطبيق الإسلام وفقاً لمفهوم الثاني وهو ما أكسب سلطة ابن سعود الشرعية. ومن ثم ظهرت دولة إلى حيز الوجود في قلب نجد وسط الجزيرة العربية، وهيمنت عليها نخبتان متمايزتان تقاسمتا السلطة: نخبة سياسية مؤلفة من سلالة محمد بن سعود على سبيل الحصر، ونخبة دينية تمحورت أولاً حول محمد بن عبد الوهاب وذريته. وبذلك، يتولى العلماء تفسير النصوص الشرعية، في حين يمارس الأمراء الحكم، أي إنّهم يطبقون تفسيرات العلماء لهذه النصوص ويعملون وفق المصلحة العامة في سائر النواحي التي سكتت عنها النصوص بشرط ألاّ تتعارض أعمالهم مع أيّ نص شرعي. وهو ما أدى إلى مجالين منفصلين متمايزين بعد قيام المملكة العربية السعودية. وبالفعل استمر التمايز بين المجالين بعد تأسيس المملكة العربية السعودية عام 1932 (وحتى قبل ذلك منذ تأسيس الدولة السعودية الثالثة عام 1902) ولعلّ أبرز دلالة إليه هي في عدم سعي أيّ من أمراء آل سعود طوال تاريخها للدخول في المجال الديني، بل تولوا دائماً الوزارات الأساسية في المملكة.
وعلى هذا الأساس المنهجي سنتابع خطوات الكاتب مع تقسيم المجالات وما طرأ عليها داخلياً من صراعات، والأحداث التي نشات من تداخل المجالات في كلّ مرحلة من المراحل.

المجال الديني
تبدأ الأيديولوجيا الخاصة بالمجال الديني من الوهابية (أتباع الشيخ محمد بن عبد الوهاب الذين تمايزوا عن جماعات سلفية أخرى) في مبدأ "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" خصوصاً الذي بات محورياً منذ القرن التاسع عشر في هذه المدرسة. وهو الذي أسس للانقسام الرئيس فيها ما بين "إقصائيين" و"احتوائيين". فالاقصائيون يشترطون على أتباعهم مبدأ الولاء والبراء، أي الابتعاد بالكامل عن الخارجين عن الإسلام، والولاء المطلق للأخوة في الدين. أما الاحتوائيون فيبيحون العيش تحت سلطان غيرهم من المسلمين (هم لا يعتبرونهم خارجين عن الإسلام أساساً بل مخطئين).
داخل المجال الديني استمر هذا الصراع بين الفريقين، واستخدم عبد العزيز آل سعود الاقصائيين حصراً في جيوشه، بل كونوا ميليشيا تحت رايته باتت القوة الرئيسية في جيشه. لكنّه في النهاية انقلب عليهم بعدما استنفد الغرض منهم عام 1929. وهو ما أدى إلى صعود قوة الاحتوائيين هذه المرة بدعم من عبد العزيز الذي بات ملكاً للمملكة العربية السعودية عام 1932. ووصل الاحتوائيون إلى الذروة مع المفتي العام للمملكة محمد بن ابراهيم آل الشيخ الذي ترأس عام 1954 اجتماعاً رسمياً رفيع المستوى، ضمّ للمرة الأولى رجال دين غير وهابيين من شتى أرجاء العالم الإسلامي، ما مثّل اعترافاً وهابياً رسمياً غير مسبوق بالمدارس الإسلامية الأخرى.
ومع دعم الاحتوائيين تودد عبد العزيز إلى المدرسة الإصلاحية التي تأسست في القرن التاسع عشر في مصر وسورية، ومع الحاجة إليهم في الدوائر الإدارية المختلفة في المملكة الوليدة بات للمصريين والسوريين وجود في المملكة.

المجال الثقافي
هكذا ترسخ المجالان الكبيران السياسي والديني، وترسخ مجالان أساسيان داخل المجال الديني هما الاقصائي والاحتوائي. لكنّ المملكة عاشت بعد ولادة الدول "التقدمية" العربية، شأن مصر الناصرية، تحدياً كبيراً في النظر إليها كمملكة "متخلفة" و"رجعية"، فعزز النظام مجالاً جديداً على غرار المجال الديني هو المجال الثقافي، وظهرت فئة المثقفين التي تتمايز عن رجال الدين في كونها تلقت تعليماً غربياً (ليبرالياً، وقومياً، ويسارياً) وآمنت بقيم الحداثة، وكان ذلك في سبعينيات القرن الماضي. وقد احتوت الدولة هؤلاء المثقفين بسهولة في ضمهم إلى وظائفها الكبرى وكوادرها الإدارية.
لكن، مع احتواء وضرب القوميين واليساريين داخل المجال الثقافي بات هذا المجال مرادفاً لليبرالية والعلمانية خصوصاً في ولاية عهد فهد بن عبد العزيز في عهد أخيه الملك خالد (1975- 1982) فقد جعل "الإنتلجنسيا" حليفه المفضل على عكس اعتماد الملك فيصل على الدوائر الدينية في العهد السابق. وعرض عليهم التدخل في المجتمع عوضاً عن المشاركة السياسية عبر مهمة بناء ثقافة سعودية حديثة تنسجم مع الحداثة الاقتصادية والاجتماعية في البلاد.
ظهرت تأثيرات الإنتلجنسيا في الملاحق الثقافية في الجرائد وفي الأندية الأدبية التي ترعاها الدولة مستغلين مناخ الانفتاح، خصوصاً مع انضمام سيدات إليهم. وقد بقي المجال الثقافي السعودي منذ تعزيزه مرتبطاً بالفكر الليبرالي، لكنّ منتصف الثمانينيات شهد بداية الاخنتراق الإسلامي له.

مجالات مقطّعة
ومع تقسيم المجالات، تبقى الإشارة إلى أنّه بخصوص الرأسمال الاقتصادي، تميز المجتمع السعودي منذ طفرة العام 1973 بوجود طبقة وسطى كبيرة. مع ذلك، بقيت شريحتان خارج الطبقة الوسطى، هما الفقراء من جهة والبورجوازيون ومعهم كثير من الأمراء من جهة أخرى.
هذه المجالات تبرز طبيعة النظام الاجتماعي- السياسي المقطّع في السعودية. فالدولة بنيت من أعلى إلى أسفل ما سمح بالإبقاء على مؤسسات موازية منغلقة لا تواصل بينها غالباً. بذلك، تقيم السلطة الحاكمة علاقات رأسية مع سائر المجالات، بينما لا توجد علاقات أفقية بين المجالات أنفسها. وهو ما يعزز منطق التقطيع ويحمي السلطة ومكانة الأسرة الحاكمة. كذلك، فإنّ عدم تسييس النخب السعودية، من خلال تقطيع المجالات واستقلاليتها الداخلية، يعزل المركز وهو المجال السياسي عن أيّ تحدٍّ محتمل من بقية المجالات.
كانت التجزئة مكانية من خلال الأحياء الخاصة بفئة المتدينين والاحياء الخاصة بالمنفتحين، وكانت كذلك رمزية فالعلماء والمثقفون لا يتكلمون لغة واحدة ولا يروجون للقيم نفسها.
تبقى الإشارة إلى أنّ مفتي المملكة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ الذي ترأس المؤسسة الدينية طوال 16 عاماً (1953- 1969) حاول التدخل في المجال السياسي من زاوية معارضة التحديث وانتقاد بعض المراسم الملكية، وبالرغم من أنّ تلك المعارضة كانت ذات جدوى، فإنّها جعلت من آل الشيخ شخصية غير نمطية في المدرسة الوهابية، وجعلته بعد وفاته مثالاً لعلماء الصحوة.
هنا يحدد لاكروا نجاح الصحوة في سعيها إلى التخلص من التقطيع بين المجالات أي بين العلماء والمثقفين وهدمها الحواجز القائمة بين الطرفين، فالعملية تحتاج إلى الطرفين معاً كما حصل في إيران 1979 حيث انتصرت الثورة، وبعكس ما حصل في مصر عقب اغتيال السادات إذ لم تضمّ الجماعة شخصيات قيادية مؤثرة، ولم تحظَ بدعم من المجال الديني بل بمعارضة وإدانة، ما منع التعبئة والتأييد الشعبيين.

الإخوان المسلمون
يروي لاكروا كيفية وصول جماعة الإخوان المسلمين إلى السعودية. لكن، قبل ذلك، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ جماعة الإخوان المسلمين التي أسسها حسن البنّا في العشرينيات لم تعد هي نفسها في الستينيات مع سيد قطب الذي أخذ الدعوة في اتجاه أكثر تطرفاً خلال سنوات حكم جمال عبد الناصر في مصر.
على فترات طويلة وفد أعضاء في إخوان مصر إلى السعودية، لكنّ موجات القمع التي نفذها فيهم عبد الناصر عام 1954 وما بعده دفعت أعداداً أكبر بكثير إلى الهجرة إلى السعودية بل نال بعضهم الجنسية. وعقب تأسيس الجمهورية العربية المتحدة عام 1958 بات مصير إخوان سورية مشابهاً، ودُفع هؤلاء أيضاً إلى السعودية، وبعد تهدئة استمرت عامين عقب انحلال الجمهورية العربية المتحدة، عاد الانقلاب البعثي عام 1963 إلى اضطهاد الجماعة. كذلك، حصلت موجة هجرة من العراق عقب انقلاب عبد الكريم قاسم عام 1958. وفي بداية السبعينيات كانت هنالك موجة هجرة جديدة للإخوان لدواعٍ اقتصادية هذه المرة، فالرئيس أنور السادات بعد وفاة عبد الناصر حسّن العلاقات معهم وأخرجهم من السجون. وفي المقابل، كانت الطفرة النفطية السعودية في أوجها، وكان الإخوان المسلمون عبر شبكاتهم المتينة هناك في وضع مناسب لانتهاز الطفرة تلك، فمنذ الخمسينيات تسلّم الإخوان مناصب رفيعة في المملكة من دون أن يشاركوا في النشاط السياسي.
تعززت قوة الإخوان في المملكة خلال الحرب العربية الباردة بين عبد الناصر (المدعوم سوفياتياً) والسعودية (المدعومة أميركياً). فببساطة، تبنى ولي العهد الأمير فيصل (الملك فيصل لاحقاً) خطاب التضامن الإسلامي أو الجامعة الإسلامية في وجه عبد الناصر وخطابه القومي العربي. وبما أنّ استراتيجية فيصل تتطلب توظيف الديني خدمة للأيديولوجيا السياسية، ولم تكن لدى العلماء الوهابيين التقليديين القدرة على الدخول في جدال سياسي بهذا الحجم، جرى ضم الإخوان المسلمين المقيمين في المملكة، وهم المحنكون والخبراء سياسياً، إلى الجهاز الدعائي المناوئ لعبد الناصر بأعداد متزايدة، إلى أن باتوا قوامه عام 1962. كذلك فتح أمامهم كلّ الموارد اللازمة كتأسيس "صوت الإسلام" رداً على "صوت العرب" التي تغلغل من خلالها عبد الناصر إلى المناطق الريفية في المملكة. وعدا عن الإعلام، تأسست الجامعة الإسلامية في المدينة عام 1961 لتنافس الأزهر وشغل مناصبها التعليمية أعضاء الإخوان المسلمين بالذات، وتأسست رابطة العالم الإسلامي عام 1962، وبالرغم من أنّ الجماعة لم تكن ذات حضور كبير فيها فإنّها ضمت عضوين إخوانيين وشخصيات من حركات قريبة من الإخوان.
على صعيد المدارس كانت الهيمنة أكبر بكثير للإخوان المسلمين في السعودية، فمع التحديث المؤسساتي في الستينيات والسبعينيات حظي مجال التعليم بكثير من الاهتمام. وبفضل عائدات النفط كان هنالك الكثير من المال، لكن من دون نخب قادرة على إدارة العملية التعليمية، إذ لم يكن العلماء الوهابيون واسعي الاطلاع على القضايا الحديثة، وكانت الإنتلجنسيا الحديثة مشغولة بوظائفها الإدارية بالإضافة إلى عدد أفرادها القليل أساساً. بذلك، كان الإخوان المرشحين المثاليين للمهمة خصوصاً أنّ التحديث الذي يدعو إليه الملك فيصل هو "التحديث الإسلامي". بات حضور الإخوان المسلمين هو الطاغي في الكوادر التعليمية لجامعات المملكة ومدارسها الثانوية يدرّسون المواضيع الدينية وغير الدينية. وكان تأثيرهم بالغاً في إعادة تشكيل النظام التربوي وإعداد المناهج أيضاً، ما سمح لهم بإدخال أيديولوجيتهم فيها.
بالرغم من كلّ ذلك، بقيت العقيدة بعيدة عن سيطرة الإخوان، وحكراً على العلماء الوهابيين، إذ لم يعهد لغير وهابي بتدريس دروس العقيدة في المدارس والجامعات.

بدايات الصحوة
أفكار الإخوان المسلمين غير المألوفة في المملكة منذ الستينيات أسست لحركة الصحوة الإسلامية، وهو اتجاه عام لا يقتصر على السعودية فقط، لكنّه وثيق الصلة ببروز حركات إسلامية في مقدمتها الإخوان المسلمون. في السعودية تبلورت أيديولوجيا الصحوة عند تقاطع مدرستين فكريتين متمايزتين هما الوهابية والإخوان. الأولى دينية تقوم على محاربة البدع التي أدخلت على عقيدة السلف الصالح، والثانية سياسية هدفها مناهضة الأنظمة الكافرة بحسب شقها القطبي الذي غلب شقها البنّائي في داخل الصحوة. وبالنسبة لحركة الصحوة كانت كلا المدرستين الوهابية والإخوانية متممة للأخرى.
وكانت الصحوة عبر عدد من رموزها، لا سيما محمد قطب، شقيق سيد قطب، تحاول المواءمة ما بين الفكر الإخواني والوهابي من دون مهاجمة الليبراليين بشكل صريح كون الإخوان مهاجرين يترددون في الانغماس في الشؤون الداخلية لدولة استضافتهم. أما في حالة عبد الرحمن الدوسري الشيخ الذي ولد في الكويت وجاء إلى القصيم مسقط رأسه حاملاً فكر معاداة الوهابية لأعداء الإخوان العلمانيين والشيوعيين بالدرجة الأولى، فقد كان له تأثير كبير. وبما أنّه نجدي في مجال ديني يعطي للنسب وزناً كبيراً فقد تمتع بميزة شنّ هجمات شرسة على الليبراليين السعوديين. وبذلك، كان الدوسري "رائد الصحوة" بحق.
تركزت شخصية الصحويين على جانبين ميزا نقاشاتهم في المناسبات الاجتماعية، الجانب الأول وهابي يتعلق بالمحرّمات الشرعية، والجانب الثاني إخواني يتعلق بوضع الإسلام والمسلمين.

تركيب الصحوة
من الناحية النظرية، تضم الصحوة جماعتين رئيسيتين، الأولى تألفت من جماعات تنتسب إلى الإخوان المسلمين، والثانية أشير إلى أعضائها باسم السروريين، وهي جماعة ظهرت الستينيات ويعود أصل تسميتها إلى محمد سرور، الإخواني السوري السابق الذي اقتربت انتقاداته لجماعته الأم في سورية من سيد قطب ودعا إلى القتال المسلح في سورية قبل أن يسافر إلى السعودية عام 1965 ويعمل في التعليم. وفي القصيم، اعتمد شكلاً جديداً من النشاط الإسلامي ينسجم مع المفاهيم العقائدية الوهابية، وهناك كانت الانطلاقة بتحريض وتوجيه روحي منه لكن من دون أن يمسك بزمام الجماعة. تنافست الجماعة السرورية التي لم تحمل أيّ اسم مع الإخوان المسلمين، وعام 1973 أُمر بمغادرة المملكة بعد تقارير عن نشاطات له وصفت بالتخريبية، وانقطعت صلته بجماعته تماماً. وبعد رحيله بدأت جماعته في أواخر السبعينات بالإشارة إلى نفسها باسمه أي "الجماعة السرورية" التي انتشرت بسرعة في المملكة ووصلت إلى العاصمة.
اكتسبت حركة الصحوة صبغة محلية قوامها الثورة على مجتمعهم على أساس ديني يحارب البدع من جهة والتماسك الداخلي في الحلقة من جهة أخرى، ولو كانت هناك صبغة نابعة جزئياً من تأثيرات خارجية. في السبعينيات وجدت الصحوة سياقاً ملائماً لنموها بشكل كبير خصوصاً مع الدعم الذي تلقته في المجال الديني الذي لم يكن العلماء الوهابيون فيه راضين عن العادات الغربية التي تدخل إلى المجتمع السعودي.

التدخل الحكومي وصعود الصحوة
بذلت الحكومة السعودية بعد وفاة المفتي محمد بن ابراهيم جهودها للحدّ من قدرة المجال الديني، فأقامت المؤسسة الدينية الرسمية التي وضع المجال السياسي قوانينها، فتأسست "هيئة كبار العلماء" التي تفرعت إلى "مجلس هيئة كبار العلماء" الذي يعين الملك أعضاءه، ومهمته إصدار الفتاوى في القضايا المهمة والمسائل السياسية، و"اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء" وتصدر فتاوى تتعلق بالقضايا الشخصية، و"الرئاسة العامة لإدارة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد" هدفه التنسيق بين كلّ هيئات ومنظمات الدعوة. ومع انتماء معظم أعضاء هذه الكيانات إلى الأرستقراطية الدينية النجدية خصوصاً، احتكرت بعض العائلات العلم الديني الوهابي وسيطرت على منابره.
لم تعد استقلالية المجال الديني قائمة كما كانت في أيام محمد بن ابراهيم، بل آثر كبار العلماء المصادقة على القرارات الملكية بصورة مستمرة. وفي الوقت نفسه، هيمن العلماء هؤلاء بدعم حكومي وموارد متوفرة على المجال الديني بشكل مطلق.
استفادت كلّ الجماعات من الدعم عبر المؤسسة الدينية، بل ادعت كلّ الجماعات دعم الشيخ عبد العزيز بن باز لها، وهو من "العلماء الضعاف" الذين أعطتهم السلطات صلاحية مساوية لسلطة العلماء الأقوياء عندما عيّن في مجلس هيئة كبار العلماء، ثم رئيساً عاماً لإدارة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد.
في هذه الظروف، كانت الصحوة في موقع مثالي للانتفاع بموارد المؤسسة الدينية الرسمية، وشهدت نشاطاتها الخارجة عن المناهج الدراسية نمواً مذهلاً، واستطاعت كما غيرها من الجماعات توسيع نفوذها في الفضاء الاجتماعي السعودي بلا عراقيل خصوصاً مع توزيع خريجيها في سائر المجالات. مع ذلك، ورغم حضورها في قلب المجالات الأخرى خصوصاً مع تمكنها من حظر دور السينما، وازدياد أعداد الشرطة الدينية التي باتت تقتحم الأماكن الخاصة حتى، وتغييب المغنيات عن التلفزيون، وحتى اللغة باتت خليطاً من لغة الإنتلجنسيا والعلماء معاً. هذا التنامي شكك بمنطق التجزئة لكنّه مع ذلك لم يتمكن من إزالة التقطيع بين المجالات. ومع عجزها عن الفكاك من منطق التقطيع على الرغم من تمثيلها مبدأ غير مسبوق لوحدة الفضاء الاجتماعي، أضيف إلى ذلك تهديد خطير تمثل في جهات فاعلة جديدة في المجال الديني الدعوي كسرت احتكارها.

أهل الحديث وجهيمان العتيبي
هذه الجهات مثلها أولاً الشيخ السوري محمد ناصر الدين الألباني الذي بات بعد انتقاله إلى السعودية مدرّساً في جامعة المدينة عام 1961 معروفاً بعالم الحديث الأبرز الذي هدد سلطة العلماء الوهابيين. لكنّ هؤلاء انتظروا فرصة إبعاده عن المملكة وهو ما تمّ فعلاً عام 1963 بعد دعوته إلى كشف المرأة عن وجهها وكفيها استناداً إلى الحديث بالذات، وهو ما يخالف التقليد الفقهي الحنبلي الوهابي ومعه كلّ العادات النجدية.
أهمية الألباني أنّه أسس لاتجاه من بعده سمّي بـ"أهل الحديث" وهم الأعداء اللدودون للصحوة. فأهل الحديث أعلنوا قطيعة مزدوجة إزاء المؤسسة الدينية الوهابية التقليدية وإزاء الصحوة في الآن نفسه. مع ذلك، لم يتمكن أهل الحديث يوماً من السيطرة على معاهد الحديث في مكة والمدينة التي كان لهم حضور كبير فيها. ومردّ ذلك افتقارهم إلى الهياكل الضرورية لنشر رسالتهم على نطاق واسع كما يفعل الإخوان والصحوة. وبذلك، قرر أعضاء في أهل الحديث إنشاء حركة الجماعة السلفية المحتسبة.
ستة من أهل الحديث من بينهم جهيمان العتيبي أسسوا الجماعة السلفية، وزاروا الشيخ عبد العزيز بن باز لإبلاغه بمشروعهم وعرض منصب مرشد الجماعة عليه. ومع إصراره على إضافة "المحتسبة" على اسم جماعتهم ضمهم بذلك إلى فرق هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر اسمياً، وعيّن عليهم نائب مرشد هو أبو بكر الجزائري الذي كلّف بشؤونهم اليومية. توسعت الجماعة في السبعينيات توسعاً كبيراً جداً، وكانت لها فروع في مكة والرياض وجدة والطائف وحائل والدمام وبريدة، وعلى رأس كلّ فرع أمير، بل امتدت إلى بلدان خليجية أخرى خصوصاً الكويت مع امتلاكها شعبية كبيرة فيها.
لكنّ خلافاً نشأ ما بين بعض أعضاء الجماعة خصوصاً جهيمان العتيبي مع نائب المرشد أبي بكر الجزائري الذي انضم إلى موقف العلماء الوهابيين الذين بدأوا في محاربة "ابتداعات" الجماعة المحتسبة. وأدى الخلاف إلى انقسام حاد داخل الجماعة، وانضمّ أغلب الأعضاء خصوصاً الأصغر سناً إلى جهيمان وخطه الرافض لكلّ تنازل.
سيّست الحركة مع جهيمان وتعرضت لملاحقة السلطات وجرى اتهامها ظلماً بامتلاك أسلحة وأوقف 150 من أعضائها في موجة توقيفات أولى أواخر عام 1977، لكن جرى إطلاقهم بعد شهر تقريباً بوساطة علماء المؤسسة الدينية التقليدية وعلى رأسهم ابن باز.
الملاحقات استمرت، وتمكن جهيمان من الهرب في المناطق الصحراوية في نجد، حتى 20 تشرين الثاني 1979. مع ذلك، واصل قيادة الجماعة المحتسبة وبات يتمتع بهالة من القداسة، وهو ما أدى إلى تسييس أكبر في خط الجماعة باتجاه معارضة الدولة السعودية. توالت التوقيفات وبات جهيمان مطلوباً أول لدى السلطات، وكانت المرة الأولى منذ العشرينيات التي يجد فيها فاعلون في الحقل الديني أنفسهم ضحية قمع. فالقمع كان مخصصاً قبل جماعة جهيمان للقوميين واليساريين. كان ذلك مفيداً للجماعة المحتسبة في فك عقدتها أمام الإخوان المسلمين بالذات إذ لم يعد أحد أحسن من أحد، فكما الإخوان دخلوا المعتقلات دخل أفراد من الجماعة المحتسبة المعتقلات في سبيل الدعوة إلى الله. وصلت الأمور إلى الذروة مع ترويج جهيمان للمهدوية، إذ أعلن أنّ رفيقه محمد القحطاني هو المهدي المنتظر ومن بعدها بقاء مجموعة صغيرة تمثل آخر انشقاق بقيادة جهيمان والقحطاني احتلت الحرم المكي بقوة السلاح في 20 تشرين الثاني 1979. وبالاستناد إلى حديث نبوي عن قيام مجدد في بداية كلّ قرن هجري، اختار جهيمان اليوم الأول للعام 1400 هـ فدخل المسجد الحرام وأعلن القحطاني مهدياً. بعد بضعة أيام قُتل القحطاني، وبعد أسبوعين استعادت القوات السعودية بمساعدة القوات الخاصة الفرنسية المسجد، وأعدمت 63 موقوفاً، كان جهيمان من بينهم إذ أعدم في كانون الثاني 1980، واستمرت موجات الاعتقالات بحق الجماعة السلفية المحتسبة بعد ذلك، لتتمكن السلطات من تفكيكها بالكامل.

الجهاديون
بعد عام 1979 تغير كلّ شيء، فمن جهة باتت هناك انشقاقات كثيرة بين الجماعات أنفسها بعضها تطرّف إلى ما يشبه جهيمان وجماعته وبعضها اتجه إلى موالاة الدولة ومؤسستها الدينية التقليدية، ومن جهة أخرى لم تتوان الدولة عن ضرب من لا يعجبها كما حصل مع "إخوان بريدة" الذين تسامحت مع وجودهم ومدارسهم طويلاً إلى أن قضت عليهم نهائياً عام 1987 عبر توقيفات شملتهم ومنع لمدارسهم.
في مقابل كلّ ذلك كانت الصحوة المتغلغلة داخل المؤسسة الدينية وبقية المجالات تكسب حظوظاً يوماً بعد يوم عبر قضاء الدولة على خصومها. 
مع ذلك، تسبب الغزو السوفياتي لأفغانستان عام 1979 في تأسيس نظرة جهادية إسلامية في السعودية من خلال رسالة الشيخ الفلسطيني عبد الله عزام التي ترفع الجهاد في أفغانستان إلى مستوى فرض العين على كلّ مسلم، وهي الدعوة التي وقفت الصحوة في وجهها. لكنّ تلك الدعوة وجدت أصداء واسعة بانضمام شخصيات عديدة مستقرة في الحجاز إلى مشروع عزام وفي مقدمتهم أسامة بن لادن. وبات التجنيد أكثر منهجية منذ أواخر 1986. وبات الدعم رسمياً من خلال بعض المؤسسات كالهلال الأحمر السعودي وهيئة الإغاثة الإسلامية العالمية، والحكومة التي كانت توفر عبر الأمير سلطان لكلّ من يسافر للجهاد في أفغانستان 75 في المائة من ثمن التذكرة. وبات عزام وابن لادن يتمتعان بشعبية متزايدة سمحت لهما بالتنقل مراراً وتكراراً إلى السعودية لإلقاء محاضرات تشجع الشبان على الالتحاق بهما. وكان الشبان الصحويون إحدى الجهات المفضلة لدى عزام وابن لادن لتجنيد المجاهدين الذين كانوا متحمسين بالفعل للالتحاق بالرغم من تردد زعمائهم ومعارضتهم. وهنا يبرز جانب العلاقات الشخصية الذي كان له دوره في التجنيد، إذ كان رواد الجهاد قد انتموا جميعاً إلى الإخوان سابقاً، فأغلب الجهاديين السعوديين ينحدرون من الجهات التي كان حضور الإخوان فيها هو الأقوى.
في كلّ الأحوال، كانت الصحوة في الثمانينيات هي القوة الأبرز على الساحة الدينية السعودية، وكانت تبرز أزمة سياسية كبرى لم تنفجر حقيقة سوى غداة النداء الذي وجهه الملك فهد إلى القوات الأميركية ما شكّل حافزاً كبيراً للتعبئة لدى الصحوة.
في سنوات الركود الاقتصادي في الثمانينيات شعر جيل كامل بالإحباط المترافق مع إحساس قوي بالهوية المشتركة. وهكذا ولّدت حالة الجمود شعوراً بالغضب سيتطور لدى هؤلاء الشباب تجاه الجيل السابق، جيل الإنتلجنسيا الذي يسيطر على جلّ الإدارة. وما يمكن أن ينظر إليه على أنّه صراع أجيال عادي يأخذ في السياق السعودي طابعاً أيديولوجياً حاداً بين شباب الصحوة والجيل الذي سبقهم من الإنتلجنسيا الذين وصلوا إلى وظائف كبيرة حال تخرجهم وحظوا بترقيات سريعة. فأحد شيوخ الصحوة يصف الإنتلجنسيا بأنّهم "جيل الهزيمة والعلمانية والتغريب وعلى أنقاضهم يُبنى جيل الصحوة المباركة، جيل له السبق في النهوض باسم الدين".
باتت معركة الصحوة مجدداً ضد العلمانيين إذ يقول منشور صحوي وزع في فترة حرب الخليج: "نجحت أميركا في تكوين جهاز متكامل من العلمانيين الذين يدينون بالولاء لها من الأشخاص الذين درسوا فيها وغرستهم في جميع قطاعات الدولة...".

النظام السعودي بات العدو
لم يقتصر نفوذ الصحوة على المجال الديني في الثمانينيات، فالمجال الثقافي الذي كان يحكمه تيار الحداثة اخترقته الصحوة عبر مثقفيها وهم المتحصلون على الأستاذية والدكتوراه. وتبنى مثقفو الصحوة منهجاً هجومياً على احتكار الإنتلجنسيا للمجال الثقافي مشككين في مفهوم الحداثة الذي على أساسه تنبني هوية المثقف السعودي، ولتحقيق ذلك شرعوا في فرض حضورهم في أماكن ما كان أحد يفكر في إمكانية حضورهم فيها كالنوادي الأدبية والمهرجانات.
بالرغم من الشعبية الكبيرة والسيطرة على المجال الديني ومعه المجال الثقافي، لم تتمكن الصحوة من اختراق المؤسسات الدينية التقليدية التي يحتلها العلماء الوهابيون، بل استمرت الصحوة في مسايرة هؤلاء وعدم إصدار الفتاوى بل اعتماد الرجوع إلى رأي "كبار العلماء" بشكل آلي. مع ذلك، وصلت الأمور في أوج الصحوة إلى توجيه الانتقاد الشديد إلى علماء الوهابية باستعادة آراء الشيخ محمد بن ابراهيم خصوصاً. كذلك، شهدت سنوات الثمانينيات تداخلاً بين المجالين الديني والثقافي عبر علماء الصحوة ومثقفيها معاً ما يؤشر على تجاوز المجالات، ولو أنّ المجال السياسي بقي بعيداً عن تأثيرات التعبئة الصحوية في الفضاء الاجتماعي.
هذه التعبئة في المجالين الديني والثقافي كان هدفها التنديد بنظام اجتماعي اعتبره أهل الصحوة جائراً، لكنّ الخطاب تطور إلى انتقاد النظام السعودي والعائلة المالكة باعتبارها داعمة للمجموعات التي صادرت الدولة. بات النظام السعودي هو العدو وقد هوجم علناً فاختفت آخر بقايا التقطيع بين المجالات.
تكثفت في المجال الديني الخطابات المعادية للولايات المتحدة، وللنظام السعودي بصورة غير مباشرة. وفي المقابل، تكثف عمل السلطات السياسية ضد الصحوة. فقد صدر عن وزارة الحج والأوقاف أواخر عام 1988 مرسوم أشار إلى أنّ "بعض الخطباء يدعون بالهلاك على اليهود والنصارى وطوائف دينية أخرى مع تسمية الدول بأسمائها، وليس هذا مما أرشدنا إليه القرآن الكريم حيث لم ترد فيه أسماء دول بعينها" داعية إلى وضع حد لهذه الممارسة. كذلك، منع مرسوم تعليق النصائح والإرشادات المكتوبة على جدران المساجد. وأيضاً داهمت السلطات في أواخر 1989 متاجر التسجيلات الإسلامية بمكة ومدن أخرى، واعتقلت بعض العاملين فيها ثم أطلقتهم مع تعهدهم بعدم بيع محتوى تحريضي مجدداً. كذلك، صادرت كميات كبيرة من المواد السمعية.
في الوقت نفسه اضطرت السلطات في المجال الثقافي إلى دعم الصحويين في صراعهم مع الحداثيين رغم حرصها على استقلالية هذا المجال. فقد خشيت السلطات من التضحية بشرعيتها الدينية مقابل شرعية تحديثية تلاقي اعتراضاً متنامياً، فسلّمت العلماء رؤوس المثقفين. وفي نهاية المطاف، بات الصحويون هم أبرز الفاعلين في المجال الثقافي.
استدعاء القوات الأميركية إلى السعودية في آب 1990 رداً على غزو صدام حسين الكويت ووعد الملك فهد أنّ هذه القوات ستكون مهمتها مؤقتة كذبته الوقائع، إذ بقيت القواعد الأميركية في المملكة بعد تحرير الكويت في شباط 1991. لا ينبغي أن نغفل عن حقيقة أنّ استنجاد السعودية بأميركا تزامن مع وصول الصحوة إلى ذروة تأثيرها كما كانت التعبئة قائمة منذ سنوات في المجالين الديني والثقافي. بذلك، فإنّ شرعية النظام السعودي كانت قد تزعزعت قبل دخول الأميركيين. ولاستعادة الشرعية كان على النظام السعودي تحريك حلفائه في المجالين الديني والثقافي لتبرير أفعاله بالهجوم على الصحويين، وفي الوقت نفسه الحفاظ على التقطيع بين المجالات قدر الإمكان. بالرغم من ذلك، كانت ردود الصحوة حادة للغاية ولم تسمح بإعادة التقطيع بل أعلنوها حرباً مفتوحة على العلماء التقليديين معارضين فتوى كبار العلماء بجواز استقدام قوات أجنبية و"الاستعانة بالكفار"، وقد راج هذا الطعن في فتوى العلماء بشكل كبير في أوساط الصحوة وأدى إلى تغذية فكرة أنّ "كبار العلماء" ليسوا في نهاية المطاف سوى "علماء السلاطين" الذين يخرجون الفتوى تحت الطلب.
كذلك، كانت ردود الصحوة طاحنة ضد الليبراليين في المجال الثقافي خصوصاً غازي القصيبي الذي لم يهادنهم بدوره. وركز الصحويون على أنّ هؤلاء الليبراليين "المعادين للإسلام" يكتبون في جرائد تابعة لأفراد من الأسرة المالكة كـ"الشرق الأوسط" و"الحياة" ودعوا إلى مقاطعتها. ولزيادة تجاوز مبدأ التقطيع، لم يتردد الصحويون في التصريح أنّ العلمانيين ليسوا أكثر من وكلاء للسلطات السعودية يمثلون وجهها الحقيقي. وقد أدت تظاهرة نسائية لـ49 امرأة يركبن ويقدن 15 سيارة في الرياض إلى إعطاء حجة كبيرة للصحوة بخصوص "المؤامرة العلمانية" فالنساء يرتبطن بالتيار الليبرالي. بل اتهمت المنشورات الصحوية أمير منطقة الرياض سلمان بن عبد العزيز (الملك لاحقاً) بمنحه المساندة المسبقة للتظاهرة وهو ما كررته المتظاهرات المعتقلات أمام رجال هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
بذلك، كانت العائلة المالكة نفسها في مرمى الصحويين وليس حلفاءها من "علماء السلاطين" و"الوكلاء العلمانيين"، وهنا تحققت بشكل كامل عملية تسييس المنطق المجالي. وهكذا ولّدت أزمة حرب الخليج واستقدام القوات الأجنبية وإفلات الأمور عن النظام السعودي في الإبقاء على تقطيع المجالات، خاصية جديدة للاحتجاج سمحت بتكوين جبهة معارضة للمجال السياسي تتعاون فيها نخب من مجالات مختلفة على أرضية إصلاحية مشتركة. وينتمي أفراد هذه النخب إلى ثلاث مجموعات رئيسية هي علماء الصحوة، والمناصرون وهم العلماء الوهابيون التقليديون الذين ساندوا الاحتجاج، والمثقفون الصحويون.

احتجاج الصحوة
حصل التقاطع هذه المرة (وليس التقطيع) بين المجالات عبر وسطاء ينتمون إلى فضاءي العلماء والمثقفين في الوقت عينه، وكذلك من خلال بعض الفضاءات التي لعبت دوراً مركزياً في تلاقي المجموعات المختلفة خصوصاً الصالونات التي تمنح شعوراً بالمساواة بين جميع المشاركين فيها إذ يجلسون على الأرض جميعاً فتتقلص الفروقات بينهم وتنشأ أشكال مختلفة من التعاون.
ومع الاختلاف حول مرجع العمل في التحرك الاحتجاجي ظهرت بعد مناقشة "العريضة" باعتبارها وسيلة مقبولة من الجميع، علماء ومثقفين. وقد كانت هذه العريضة التي تطالب بديمقراطية إسلامية، والعدالة والمساواة بين أفراد المجتمع في الحقوق والواجبات، والتوزيع الأفضل للثروات، وكفالة حقوق الفرد والمجتمع وغيرها، تصب بجميع بنودها في صالح الصحوة إذ تسمح لها بقلب التوازنات لصالحها بعدما كان المنتمون إليها في حال المغلوبين على أمرهم في مختلف المجالات، وفي المقابل، تستبعد خصومهم الليبراليين من مناصب الدولة كما تستبعد الحداثيين من أجهزة الإعلام ووضع الصحويين في المركز من المجال الثقافي. كذلك، حاولت العريضة استقطاب أطراف أخرى هم "المستضعفون" في الفضاء الاجتماعي بسبب أعراقهم أو أصولهم الجغرافية وحتى القفز على المسألة الشيعية، علماً أنّ معظم الصحويين يكفّرون الشيعة.
كان من المتفق عليه أنّ العريضة ستوجه إلى الملك مباشرة، ولن تنشر على العلن، وبذلك تمكنت الصحوة من الحصول على توقيعات مرموقة للغاية في المؤسسة الدينية التقليدية أبرزها لابن باز والعثيمين ثم صالح الفوزان وعبد الرحمن السديس وغيرهم، وقد وصل عدد التوقيعات ما بين كانون الثاني ونيسان 1991 إلى أكثر من 400 من بينها 52 توقيعاً مرموقاً.
لكنّ المجموعة الصغيرة داخل الصحوة التي تقف خلف تلك العريضة وكانت تنوي منذ البدء جعلها علنية ورضخت خلال المفاوضات الداخلية، تراجعت عن تعهدها، فبعد أسبوع واحد من تسليمها إلى الملك فهد، أرسلت بالفاكس إلى مختلف أرجاء المملكة، وجرى توزيع النص بملايين النسخ لاحقاً. وهو ما دفع السلطات السياسية إلى دعوة هيئة كبار العلماء إلى الاجتماع في حزيران 1991، لتصدر الهيئة فتوى تدين فيها نشر خطاب المطالب، لكنّها كانت فتوى تدين النشر ولا تدين المطالب نفسها التي أقرها ابن باز والعثيمين أهم شخصيتين دينيتين في البلاد، وبذلك، لم يكن أمام النظام من خيار غير الاعتراف بتسجيل الصحويين بعض النقاط.
خلال العام التالي اجتهد المثقفون الصحويون خصوصاً في توسيع إطار العريضة عبر تحويلها إلى مذكرة مليئة بالشروحات بحجم 120 صفحة، سميت "مذكرة النصيحة" وقد التزموا فيها المبادئ الأولى كاملة، لكنّهم في البند المتعلق بالمجال الديني قدّموا علماء الصحوة، أي المؤسسة البديلة، على المؤسسة الدينية التقليدية وعلمائها الوهابيين الكبار. وقد تضمنت قائمة التوقيعات بالإضافة إلى المثقفين الصحويين وعلماء الصحوة ثلاثة علماء من المناصرين، أي من المؤسسة الدينية التقليدية، هم عبد الله بن جبرين وحمود الشعيبي وعبد الله المسعري، وكتب مناصر رابع هو عبد الله الجلالي توصية ضمت إلى الوثيقة إلى جانب توصيات أخرى.
قدمت المذكرة إلى الملك، لكنّها نشرت من غير علم واضعيها بعد شهرين من تقديمها إلى الملك، في صحيفة المحرر الباريسية، وهو ما أثار حفيظة السلطات السياسية التي عرضت المذكرة أمام هيئة كبار العلماء. وهذه المرة كان رد الهيئة على المطالب نفسها إذا أسقطت الهيئة في فتوى قاطعة كلّ شرعية لنص موقع "من عدد من المدرسين وبعض المنتسبين إلى العلم والذي يزرع الشحناء والتحزب، مع التغاضي الكامل عن كل محاسن الدولة، مما قد يدل على سوء قصد من أعدها أو جهله بالواقع".
رد الهيئة قابلته فتوى من المناصرين الثلاثة بإلحاح من مثقفي الصحوة باسم "الرد الثلاثي" مثّل تحدياً جلياً لسلطة "كبار العلماء" وكان له تأثير دالّ على معنى الاحتجاج إذ انتقل رفض المؤسسة الرسمية من الضمني إلى الصريح، واهتزت شرعية الهيئة بين المواطنين إلى حدّ إطلاق لقب "هيئة كبار الجهلاء" عليها.
مجدداً استغل المثقفون الصحويون هذه النقطة لصالحهم نظراً لاعتقادهم أنّهم حققوا نصراً جديداً، وبدأوا في تشكيل مؤسسة رسمية تمثل مشروع الإصلاح من بوابة حقوق الإنسان، كي يكسب تحركهم زخماً إعلامياً عالمياً. بذلك، تأسست "لجنة النصرة والحقوق" مع اعتقال شيخ صحوي. وكانت اللجنة التأسيسية مؤلفة من  العلماء الصحويين والمثقفين على حد سواء أما اختيار هؤلاء فقد أنيط بالعلماء المناصرين أصحاب الفتوى.
أصدر الأعضاء المؤسسون الستة بياناً في أيار 1993 أعلنوا فيه استعدادهم "للمساهمة في كلّ ما يلزم لرفع الظلم ونصر المظلوم والدفاع عن الحقوق التي فرضتها الشريعة للإنسان". وأرسل البيان إلى المنظمات الحقوقية الأوروبية والأميركية الأشهر ما لفت وسائل الإعلام العالمية بشكل كبير.
أعلنتها هيئة كبار العلماء كالعادة لجنة غير شرعية بعد أسبوع من تأسيسها، وكان الإعلان ذا مفعول عكسي إذ زاد عدد أنصار اللجنة. لكنّ إنكار المؤسسة الدينية الرسمية هذا أعطى السلطة السياسية سلاحاً حاسماً لإضفاء الشرعية على القمع الذي سلطته على الاعضاء المؤسسين الذين عزلوا من وظائفهم. وتلقت اللجنة ضربة أكبر بانسحاب الشيخ المناصر ابن جبرين منها قائلاً إنّه جرى خداعه. وبالرغم من بيان ثانٍ أكدت فيه اللجنة مضيها قدماً ضربتها السلطات بالكامل بعد فترة وجيزة بالقبض على عدة أعضاء منها وهكذا انتهى عملها. ولو أنّها أطلقت مجدداً من لندن عبر سعد الفقيه ومحمد المسعري، اللذين عادا وانفصلا وأسس كلّ منهما حزباً معارضاً للنظام السعودي من الخارج.

تقارب صحوي – جهادي
في كلّ الأحوال سمحت الاحتجاجات في حدوث تقارب غير متوقع بين الصحويين وخصومهم التاريخيين داخل الحركة الإسلامية، وهم الرفضيون الذين رأوا في الصحوة قوة معارضة ذات مصداقية. أما الجهاديون كأسامة بن لادن فقد أظهروا لا مبالاة ملحوظة تجاه الاحتجاج الصحوي. لكن، بعد تجريد ابن لادن من جنسيته السعودية وتجميد حساباته في المملكة عام 1994 نشر بياناً هاجم فيه القرار الملكي وأعلن عن تشكيل "هيئة النصيحة والدفاع عن الحقوق الشرعية" وهو اسم مشابه للجنة الصحوية السابقة، وفي بيان ثانٍ استعرض تاريخ الاحتجاج الصحوي منذ خطاب المطالب وصولاً إلى الهيئة التي أسسها، وأعلن فيه عن تأييده مذكرة النصيحة و"كلّ ما دعت إليه لجنة الدفاع عن الحقوق الشرعية". وشهد مكتب لندن في الهيئة التي غيرت اسمها إلى "هيئة النصيحة والإصلاح" تعاوناً كبيراً مع "لجنة الدفاع عن الحقوق الشرعية" التي استأنفت نشاطاتها هناك.
وفي السعودية ظهر التقارب الصحوي – الجهادي من خلال العالم الصحوي البارز سلمان العودة المعروف بمعارضته إرسال الشباب السعودي للقتال في أفغانستان الذي بات أقل تحفظاً تجاه الجهاد في الخارج. وفي المقابل، فإنّ السلطات التي ضاقت ذرعاً بعزيمة معارضيها من الصحوة، أجرت عام 1994 حملة اعتقالات واسعة طالت في من طالت سلمان العودة والعالم الصحوي الآخر سفر الحوالي، وهو ما رأت فيه المعارضة الإسلامية السعودية بجميع أطرافها استفزازاً غير مقبول، بل إنّ الجهاديين والرفضيين اعتبروا ذلك إعلان حرب. وبدأت "لجنة الدفاع عن الحقوق الشرعية" في نشر بيانات صادرة عن جماعات متطرفة غير معروفة تهدد النظام السعودي بالانتقال إلى العنف. وبالفعل، كانت هذه حال هجوم 1995 الذي قتل فيه في انفجار سيارة مفخخة في الرياض خمسة أميركيين وهنديان، واتهمت السلطات أربعة سعوديين، هم ثلاثة جهاديين تعارفوا في أفغانستان ورفضي، وأعدمتهم جميعاً. وهكذا حول الجهاديون والرفضيون الاحتجاج الصحوي لصالحهم.
في آب 1996 نشر ابن لادن "إعلان الجهاد على الأميركيين المحتلين لبلاد الحرمين" وكانت المرة الأولى التي يقدم إعلاناً باسمه لا باسم هيئته. لغة إعلان الجهاد هذه تتعارض تماماً مع الخطاب الصحوي، لكنّ اللافت أنّ ابن لادن وضع نفسه في مقام الابن الشرعي للصحوة، مظهراً إعلان الحرب باعتباره النتيجة المنطقية للجهود التي بذلتها حركة الإصلاح الصحوية منذ عام 1991، ذاكراً سلمان العودة وسفر الحوالي عدة مرات. وبهذا يؤكد أنّ انتفاضة الصحوة هي أصل الجهاد العالمي الذي يستعد القاعدة لتجسيده.

تراجع الصحوة
مع مدّ ابن لادن نفوذه، كانت الصحوة تتراجع شيئاً فشيئاً وتدرك نهايتها. السبب الرئيسي الظاهر كان قمع السلطات لكنّه سبب غير كاف. كذلك، فإنّ صعود حركات مضادة تساندها السلطات يساعد في هذا الإنهاك لكنّه ليس السبب الرئيس فيه. فهذا الإنهاك كان نتيجة ضعف ذاتي.
القمع اتخذ أشكالاً عديدة تتدرج من الإكراه إلى الضغط فالاعتقال ثم الأحكام بالإعدام، وكذلك ضبط المؤسسات من جامعات أو إدارات وضمان عدم وصول موظفين من الصحوة، والأهم في المجال الديني ضمان عدم وصول موارد مالية إلى الصحوة. وهو الأمر نفسه المتعلق بالأوقاف التي تقدر بمئات ملايين الريالات وهي التي يتصرف بها العلماء بشكل مستقل، فكانت المصادقة على نظام أوقاف معدل تديره وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد المنشأة حديثاً بعد فصل الدعوة والإرشاد من الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد التي كان رئيسها الشيخ عبد العزيز بن باز. كذلك، اكتملت سيطرة العائلة المالكة على المجال الديني من خلال إنشاء المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية أواخر عام 1994، وقد ترأسه الأمير سلطان وضم في عضويته أمراء من الصف الأول.
ولا يخفى أنّ ضمور الصحوة ترافق مع صعود قوي لحركات مضادة، من بينها الجامية وريثة أهل الحديث الأكثر أهلية للوقوف في وجه الصحوة بما فيها من علماء مناقضين للصحوة في رؤيتهم للعالم. وقد تكوّن التيار الجامي بمساندة من السلطة السياسية بعد الغزو العراقي للكويت كناقد لاذع للاحتجاجات الصحوية وكمدافع شرس عن العائلة المالكة، وبسرعة كونت الجامية شبكة منظمة نسبياً امتد حضورها إلى مختلف مدن المملكة. لكنّ الجامية سرعان ما ضعفت عامي 1993 و1994 نتيجة انشقاقات داخلية كانت في جزء منها نتيجة للتناقضات الكامنة في خطابها وتركيبها ما بين أهل الحديث والوهابية التقليدية.
كذلك، استمالت العائلة المالكة صوفية الحجاز وهم أعداء تاريخيون للوهابية وكذلك للصحوة. وفي الوقت عينه، قطعت الطريق على الصحوة في اكتساب حليف شيعي، عبر دخول العائلة المالكة في مفاوضات مع الشيعة الشيرازية أدت إلى إطلاق السجناء السياسيين الشيعة من السجون والعمل على وقف التمييز تجاه الشيعة في المملكة، وفي المقابل وضعت الحركة الإصلاحية (حزب الشيعة الشيرازية) حداً لأنشطتها وتوقفت مجلة الجزيرة العربية التي كانت تنشر مقالات تتعاطف مع احتجاجات الصحوة عن الصدور.
مع كلّ ذلك، لم تكن الأسباب الخارجية تلك هي التي أدت إلى ضمور الصحوة، بل الهياكل التعبوية المفقودة. وفي غياب التعبئة اللازمة يغيب عن المشهد مدى الدعم الذي تتمتع به الحركة في حال تعرضها إلى امتحان قوة مع النظام. سعى الإصلاحيون (اللجنة) إلى استغلال الانقسامات العمودية التي تشق الجماعات (بين القيادات والجمهور) فبدأت حملة مكثفة تجاه الكوادر الوسطى للجماعات وكذلك الأعضاء العاديين حتى يضغطوا على الكوادر بهدف إقناعهم بالانضمام إلى الحركة. نجح ذلك مع أكثر من جهة لكن بشكل أولي، فلم تتمكن الصحوة من اكتساب ذلك الجمهور بشكل دائم فقيادات الجماعات استعادت السيطرة على جماهيرها، بل انضمت بعض الجماعات كالسروريين إلى صف السلطة السياسية. بذلك، حرمت الحركة الاحتجاجية من الجزء الأكبر من بنيتها التحتية.
كذلك، لم تنجح الصحوة في نقل التعبئة إلى المستوى الشعبي، فبعد اعتقال سلمان العودة في بريدة في أيلول 1994 نظمت مسيرة من منزله إلى مقر الإمارة في القصيم (على بعد 4 كيلومترات) وأصدرت لجنة الحقوق الشرعية بياناً وزع بآلاف النسخ عبر الفاكس يدعو إلى ضرورة الاستنفار الأقصى للأمة كلها والتوجه إلى مسجد الشيخ سلمان العودة في بريدة. وقعت المسيرة الكبيرة يوم 13 أيلول وانتهت بلقاء بين أبرز الداعين إليها مع نائب الأمير فسلموه نصاً يدعو إلى إطلاق سراح العودة. وعدهم نائب الأمير بذلك، فعاد المتظاهرون إلى بيوتهم، لكنّ العودة بقي في السجن ولحق به أغلب منظمي المسيرة في الأيام التالية. بحسب الشهادات المختلفة لم يشارك في المسيرة أكثر من ألف شخص وليس 15 ألفاً كما زعمت لجنة الدفاع عن الحقوق الشرعية. وفي اليوم التالي لمسيرة بريدة، فشلت تظاهرة نظمت في الرياض بسبب سوء التنسيق وكذلك بسبب صعوبة التعبئة.

النهاية والمصير
عام 1995 انتهت انتفاضة الصحوة بالكامل، وابتداء من أواخر التسعينيات ستستعاد الصحوة بأشكال مختلفة. حدثان بارزان ميزا المرحلة، أولهما تحكم ولي العهد عبد الله (لاحقاً الملك) منذ عام 1995 تحديداً بالمجال السياسي عقب إصابة الملك فهد بجلطة دماغية. والثانية وفاة المفتي عبد العزيز بن باز عام 1999 ثم الرجل الثاني دينياً الشيخ محمد بن عثيمين بداية 2001، وهو ما خلّف فراغاً هائلاً لم يكن المفتي الجديد عبد العزيز آل الشيخ مؤهلاً لسدّه. فاستقلالية المجال الديني (الظاهرية) ضرورة كبرى للحكومة لإضفاء الشرعية على النظام من خلال المجال الديني نفسه، وهو ما لم يوفق فيه آل الشيخ. بذلك، جرى تقريب مجموعة العلماء الصحويين من النظام كي ينال تلك الشرعية منهم، وبذلك، أطلق سراح سلمان العودة وسفر الحوالي وناصر العمر، بعد إطلاقه جميع الناشطين الصحويين على مدى عامين. الأمر صدر عن الأمير نايف وزير الداخلية، وبذلك، بات نايف هو الراعي لهؤلاء والوجه "المحافظ" وحليف المجال الديني، فيما غدا عبد الله الوجه الليبرالي وصديق المجال الثقافي. كذلك، تعززت سلطة عبد الله على الإعلام وسمح لفضائيات أجنبية بالوصول إلى السعودية كـ"الجزيرة" القطرية المثيرة للجدل، وسمح للصحافة السعودية بتناول قضايا أكثر جرأة والتعبير عن قدر أكبر من التنوع في الآراء. كذلك، ظهرت المنتديات لتشكل مساحة مفتوحة للنقاشات فكانت كما لو أنّها برلمان حقيقي، وهو ما أنشأ فضاء عاماً حقيقياً في السعودية.
كلّ ذلك، بالإضافة إلى أحداث 11 أيلول 2001، ومن بعدها الغزو الأميركي لأفغانستان ثم العراق، أثّر في صراع على تركة الصحوة. فكانت هناك تشكيلات مختلفة، أولها العلماء الذين باتوا وسطيين معتدلين متحالفين مع السلطة ومبررين لشرعية قراراتها مع الالتزام بمشروعهم الأول في بناء سلطة دينية بديلة عن المؤسسة التقليدية.
ثم جماعة "الليبرو- إسلاميين" التي تضم الليبراليين ومثقفي الصحوة والشيرازيين الشيعة وإصلاحيي الحجاز وقد برز خطابهم خصوصاً بعد 11 أيلول حيث نشروا بيان "على أيّ أساس نتعايش" الذي يدعو إلى التعايش السلمي مع الغرب في كنف الاحترام المتبادل للقيم. ثم نشروا عريضة أواخر عام 2003 تطالب بملكية دستورية إسلامية. لكن، لم يذهب الأمر أبعد من هذا الحد إذ اعتقل أبرز قادة هذا الاتجاه عام 2004 عقب تنظيم لقاء إسلامي - ليبرالي في الرياض. وهي اعتقالات لم تفرز أيّ ردة فعل في الفضاء الاجتماعي.
بعد هؤلاء هناك الجهاديون الجدد وهم خط العلماء الصحويين الذين يرفضون الأنظمة القائمة وصولاً إلى تكفيرها الذين تقاربوا مع الجهاد العالمي برئاسة ابن لادن الذي سطا رمزياً على الاحتجاج الصحوي قبلها بسنوات. وكانت معركة هؤلاء الأولى مع الليبرو - إسلاميين بداية من عام 2000 عبر شبكة الإنترنت نفسها. لكنّهم سرعان ما هاجموا رمزي الصحوة الكبيرين المتهمين بـ"الانهزام" و"تغيير المنهج" سلمان العودة وسفر الحوالي خصوصاً بعد تأييدهما بيان "على أي أساس نتعايش" ثم تراجعهما عن التأييد تحت الضغط.
لم يتمكن الجهاديون الجدد والليبرو - إسلاميين من تعبئة الشارع تبعاً لأسباب مباشرة مثل القمع والانقسامات الداخلية وسحب الأمير عبد الله دعمه لليبرو - إسلاميين وضعف الإعداد التنظيمي. لكنّ السبب الحقيقي هو أنّ كلّ اتجاه من الاتجاهات بقي أسير مجاله أكان الثقافي أم الديني فلم يتمكن من العبور بين المجالات ناهيك عن القدرة على تحريك الشارع لأنّه لا يملك الحقيقة كاملة بل جزء منها لا غير.

خاتمة وملاحظات
في الإمكان ملاحظة ثلاث خاصيات في حالة حركة الصحوة، أولاً أنّها مستوردة غير نابعة من القضايا المحلية، بل أسقطت على واقع مخالف لما أنتج أطرها، وبالتالي لم يكن لها عدو واضح في الفضاء الاجتماعي فكان شبابها "متمردين بلا قضية". الخاصية الثانية أنّ تطور التيارات الإسلامية في السعودية ليس على هامش الدولة كما غيرها بل مدمج في المؤسسات الرسمية، كما هو الحال مع المؤسسة التعليمية التي ستغدو معقلاً للصحوة. والخاصية الثالثة أنّ الجماعات الإسلامية المختلفة في السعودية لعبت دوراً في استقرار النظام، أولاً عبر الصراع على الموارد التي يقدمها والمحافظة بالتالي على التقطيع بين المجالات، ثم مجابهة أعداء السلطة من اليساريين والقوميين ثم الرفضيين والجهاديين.
بذلك، لم يكن هناك ما يشير إلى أنّ الصحوة ستتحول إلى حركة احتجاج ضد الدولة التي ترسّخ المنطق المجالي وتغذيه بالموارد، لكنّ العامل الرئيس في ذلك كان الركود الاقتصادي في الثمانينيات الذي أدى إلى تناقص الموارد، وبالتالي بدأت الآلة الجميلة تتعطل، وبدأ الإحباط يتسرب إلى الأجيال الجديدة في المجالات، وسيكون جيل الصحوة من هؤلاء.
التزم لاكروا في قراءته المطولة لحركة الصحوة وانتفاضتها نظرية المجالات، وأبرز كيفية تقطيع هذه المجالات في السعودية ما بين سياسي وديني وثقافي. كذلك، أبرز قدرة النظام السياسي، أي العائلة المالكة في هذه الحالة، على التلاعب بالمجالين الديني والثقافي بحسب مصلحتها هي بالذات، وعلى التلاعب في عناصر كلّ مجال في حدّ ذاته لتغلّب فئة على فئة داخله تبعاً لتلك المصلحة نفسها.

عصام سحمراني
‏24‏/05‏/2017

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

يوميات لبنانيين محاصرين في المربع الأحمر

نصائح لنجاح متكامل في العام الجامعي الأول