مين إلو نفس بعد!؟
صيف عام 1995، استقليت مع والدي سيارة تاكسي، إلى عملنا. المرسيدس اللفّ البيضاء، كانت فارغة تماماً من الركاب على غير عادة، فيما الأغرب من ذلك ألّا يشارطنا شوفيرها على سرفيسين بدل السرفيس الواحد رغم أنّ كلّ شوفير تقريباً يضع هذا الشرط ونرفض حتى يقبل أحدهم على مضض، وتربيح جميلة، و"ألله بيرزق" و"كرمالكن بس" وديباجات من هذا القبيل.
ذلك السائق لم يكن غريباً فقط في ذلك، إذ رفض حتى أن يتوقف لركاب آخرين على طريقنا، بل قاد سيارته جهة اليسار مسرعاً، ما أثار فضول والدي الذي كان - رحمه الله- يكره رؤية الأحداث في غير مسارها المتوقع... والمتوقع في هذه الحالة أن يحشو السائق سيارته حشواً بالركاب، حتى يكاد أحدهم يجلس في حضن الآخر.
هذا ما دفع والدي لسؤاله بعدما قطعنا نصف الطريق، عن سبب ما يفعل، ليجيب السائق بعد تنهدات، ونفخات لدخان سيجارته، ومحاولات تجاهل: "مين إلو نفس بعد!؟ خسرت كلّ مصرياتي مع خليل حسون". جواب ربما أقنع والدي إذ لم يقل شيئاً بعدها، وهو المتابع الجيد لتلك القضية التي كانت من أوائل قضايا الاحتيال المالي المستند إلى تشغيل الأموال مع الوعود بالفوائد المرتفعة ثم إعلان الإفلاس، في أعقاب الحرب، وفي أعقاب ما تقاضاه المهجَّرون - ومدّعو هذه الصفة - من تعويضات.
تذكرت هذه الحادثة بينما كنت أعيد قراءة مقدمة ابن خلدون طوال الأيام الماضية، إذ استوقفني فصل خطير، يصف بكلام سوسيولوجي ذلك السائق، حين يقول العلّامة المؤسس، الذي عاش في القرن الرابع عشر وبداية الخامس عشر: "اعلم أنّ العدوان على الناس في أموالهم ذاهبٌ بآمالهم في تحصيلها واكتسابها، لما يرونه حينئذٍ من أنّ غايتها ومصيرها انتهابُها من بين أيديهم، وإذا ذهبت آمالهم في اكتسابها وتحصيلها انقبضت أيديهم عن السعي في ذلك، وعلى قدر الاعتداء ونسبته يكون انقباض الرعايا في الاكتساب، فإذا كان الاعتداء كثيراً عامّاً في جميع أبواب المعاش كان القعود (الامتناع والتوقف) عن الكسب كذلك، لذهابه بالآمال جملة بدخوله من جميع أبوابها، وإن كان الاعتداء يسيراً كان الانقباض عن الكسب على نسبته، والعمران (المقصود هنا المجتمع الحضري الكبير) ووفوره (سعة المال) ونَفَاقُ (رواج على العكس من كساد) أسواقه إنّما هو بالأعمال وسعي الناس في المصالح والمكاسب ذاهبين وجائين، فإذا قعد الناس عن المعاش وانقبضت أيديهم عن المكاسب كسدت أسواق العمران وانتقضت الأحوال وابذعّرّ (تفرّق وفرّ) الناس في الآفاق من غير تلك الإيالة في طلب الرزق (هاجروا)..." إلى آخر هذا الفصل*.
مرت السنوات، ومعها حسون وعز الدين وآخرون، حتى جاء دور المصارف اللبنانية التي انهالت على اللبنانيين عدواناً سافراً ضدّ أموالهم، وضدّ ثقتهم بالنظام المصرفي، بالدرجة الأولى، بالاتفاق مع طبقة فساد حاكمة. لكنّ قروناً سبعة وأكثر، مرّت على ابن خلدون وما كتب، وعبقرية حاكم مصرف لبنان ومن يمثلهم أكبر من أن تقف وجهاً لوجه مع المودعين لتعلن لهم: "لقد سرقناكم". ولعلّ "المقدمة" وحدها لا تكفي لتفسير التلاعب الحاصل وفق القانون دائماً وأبداً، في "الدولة الحديثة" واقتصاد السوق، للاستيلاء على أموال المودعين، وتجفيف دولاراتهم، وتبديد جنى عمرهم، بابتسامات ووعود وتعاميم مصرفية تلهي من تلهيه، وتدجّن من تدجنه، بدولار الـ8000 من هنا، والـ400 دولار من هناك، فيما ترمي الاتهامات يميناً ويساراً، وتضيّع طاسة الحقيقة، كي يستمر المودع واللبناني عموماً في الكسب، وتبقى له نفسٌ تتيح للسارقين سرقته مجدداً.
*الفصل الثالث والأربعون من المقدمة، وعنوانه: في أنّ الظلم موذنٌ بخراب العمران.
تعليقات
إرسال تعليق