طازة كعك
"كعك كعك طازة كعك"... يدفع البائع عربته في الأحياء، وينادي بأعلى صوته، أملاً في اصطياد زبائن، يجمع منهم مبلغاً بات يتصاعد سنة بعد سنة، من دون أن تتصاعد قدرته الشرائية. أذكر أنّ الكعكة، وهي من الخبز السميك المغطى بالسمسم، لها فتحة، بمثابة مسكة أو قبضة يمكن عبرها إدخال الكعك في عارضتين على جهتي العربة، كانت تساوي ليرة لبنانية واحدة عام 1987. تلك أيام الطفولة البعيدة، وأيام ليرةٍ كانت لا تزال "تحكي" كما قيل يوماً، وإن لم يكن ذلك "الحكي" يساوي أكثر من كعكة في أيامي.
![]() |
| "وليمة" بـ5 آلاف ليرة قبل عامين باتت اليوم بـ15 ألف ليرة من دون إضافتي الزيتون واللبنة (كعكة قشقوان وشاي فقط) |
هذه الكعكة التي لا يوضع فيها غير الصعتر، بل ربما هو شيء آخر كما يتهم كثيرون، من قبيل نشارة الخشب المصبوغة، أو المكانس المطحونة المخلوطة بقشور السماق، بحسب اللون، باتت اليوم بثلاثة آلاف ليرة. ضُرب سعر الكعكة في طفولتي بثلاثة آلاف كاملة، وهو الذي لم يكن مضروباً بأكثر من ألف قبل عامين، لكنّ الانهيار تسارع وبات كلّ شيء غير كلّ شيء. الدولار بأسعار مختلفة وصل أكثرها انتشاراً والذي ترتبط به الحركة التجارية إلى 15 ألف ليرة. بهذا المعيار، لا يبلغ سعر الكعكة أكثر من 20 سنتاً، بعدما كانت قبل عام ونصف 66 سنتاً. لكنّ الدولار الذي يتقاضى معظم الموظفين والعمال رواتبهم على أساسه، ما زال يعادل 1500 ليرة، فهو دولار مصرف لبنان وحاكمه، فراتب ثلاثة ملايين ليرة (وهو راتب كبير) يعادل 2000 دولار بالاسم، لكنّه في الفعل لا يعادل أكثر من 200 دولار. وإذا كانت الكعكة بصعتر (أو زعتر) وحده بـ3 آلاف ليرة، فإنّ لكلّ إضافة سعرها، حتى أنّ إضافة الزيت إلى الصعتر تعني ارتفاع سعر الكعكة إلى 7 آلاف ليرة دفعة واحدة، وقس على ذلك.
| قائمة الأسعار الجديدة وهي تشهد تغيرات مستمرة تبعاً لسعر الدولار |
هذه الكعكة التي تصغر حجماً عمّا كانت عليه من قبل، لتوازن ما بين سعر لم يخطر ببال أحدهم أن تبلغه بعد، وهو 10 آلاف ليرة - وهو سيأتي لاحقاً، تبعاً لدولار مضروب عشر مرات فعلياً - مؤشر على التدهور الحاصل، في بلد لا يمكن أن ينفجر فجأة، فلا اثنين يتفقان على انتفاضة وهويتها وهدفها، بل سيبقى يذبل ويذبل طويلاً، لتموت معه أرواح من فيه، ممّن يحمون البنى التقليدية أو يثورون عليها أو يرضون بالوضع القائم مهما كان وفي أيّ حال.
عصام سحمراني

تعليقات
إرسال تعليق